البروفيسور أكولدا مان تير: عالمٌ سوف تبقى ذكراه خالدة
البروفيسور أكولدا مان تير: عالمٌ سوف تبقى ذكراه خالدة
بقلم نصرالدين عبدالباري*
من أعظم التشريفات التي حظيتُ بها في حياتي هي أنني أُتيحتْ لي الفرصة لأن أكون طالباً وزميلاً للبروفيسور أكولدا مان تير، الذي وافته المَنِيَّة في كمبالا، بينما كان في طريقه قاصداً ألمانيا.لا توجد كلماتٌ أستطيع بها التعبير عن الحزن العميق الذي أشعر به لوفاة هذا العالمُ، غزيرُ الإنتاج. ولا هذا المقالُ الرثائي الموجز يكفي لبيان الأثر الثابت الذي تركه عالمٌ متميزٌ كالبروفيسور تير—الذي تستحق حياته كلها الكتابة عنها—على طلابه وزملائه.
أكمل البروفيسور تير، الذي وُلد فيما هو اليوم ولاية البحيرات في جنوب السودان لأسرة من قبيلة الدينكا،تعليمه الثانوي في جنوب السودان، ثم التحق بجامعة الخرطوم، التي تخرج فيها في العام 1968 بدرجة البكالوريوس في القوانين، فعُيَّن بُعيد تخرجه معيداً، تماشياً مع تقليد راسخ بجامعة الخرطوم، يقضي بتعيين أكثر الطلاب تميَّزاً معيدين بالجامعة. وبعد إتمامه دراساته العليا بجامعة كمبريدج، عاد إلى السودان حاملاً درجتي البكالوريوس والدكتوراه في القانون، ليصبح محاضراً بكلية القانون بجامعة الخرطوم، التي قضى بها حياةً حافلة بالإنتاج العلمي، صيَّرته علماً من أعلام القانون.
وعلى الرغم من الفرص العديدة التي كانت متاحة وقتئذٍ أمام خريج جامعة كامبريج الشاب، اختار البروفيسور تير أن يقضي ثلاثة عقود ونيف أستاذاً بكلية القانون، وذلك باستثناء ثلاث سنوات كان فيها مديراً لجامعة جوبا (من إبريل/نيسان 1990 إلى أغسطس/آب 1991) وأستاذاً زائراً بجامعة ويندسر بكندا (من 1999 إلى 2000).
في تاريخ جامعة الخرطوم المديد، لم يهب أستاذٌ مثل هذه المدة الطويلة من حياته إلى كلية القانون. فلا غَرْوَ أنه كان الأستاذ الأوحد الذي، بخدمته المتواصلةوإنتاجه العلمي الذي لم ينقطع، بلغ أعلى مرتبةوظيفية أكاديمية في القانون بجامعة الخرطوم، ألا وهي مرتبة الأستاذية.
لقد كان البروفيسور تير هو أول وآخر أستاذ من جنوب السودان يصبح عميداً لكلية القانون. إذ أن كل الجنوبيين الذين تميَّزوا أكاديمياً وعُيِّنوا بكلية القانونأساتذةً، غادروها لينشغلوا في الحياة بشاغلات أخرى. فنتالي الواك أكولاوين(1962)، الذي ألف كتاب “التعويض في الإجراءات الجنائية،” وبيتر نيوت كوك (1971) انضما إلى حركات المقاومة في جنوب السودان. بينما أصبح فرانسيس دينق دبلوماسياً بعد أن أكمل دراساته العليا بكلية القانون بجامعة ييل وانضم من بعد ذلك إلى الأمم المتحدة.
أما البروفيسور تير،فقد كان العمل الأكاديمي، دون سواه، هوشغله الشاغل. فلا السياسة ولا الدروب المهنية الأخرى التي تؤدي سريعاً إلى الثراء أو الشهرة كانت جاذبة له. فقد اختار، بدلاً عن ذلك، أن يعيش حياةً تقشفية، لكنها منتجة ومفيدة، كعالم قانون “متفرغ.” إنه رجلٌ خُلق ليكون أكاديمياً والأكاديميات هي التي حددت حياته. إن سعة وشمول معرفته القانونية يتبيَّنان من كثرة وتنوع المقررات الدراسية التي قام بتدريسها بجامعة الخرطوم ومؤسسات أكاديمية أخرى، بل أن الفضل في إدخال بعض هذه المقررات، كحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والملكية الفكرية، إلى الجامعة يرجع إليه.
وإذا كنت ممن يؤمنون بالمثل القائل: “إنشرأو تفنى،” فإن البروفيسور تير كان دوماً حياً، نظراً إلى كتاباته الغزيرة والمستمرة.لقد ظهرت أعماله، على سبيل المثال لا الحصر، في دوريات علمية رفيعة كمجلة كمبريدج للقانون، ومجلة كلية القانون بجامعة نيويورك للقانون الدولي والمقارن، والمجلة الأفريقية للقانون،ومجلة العرب ربع السنوية. وكتابه “القانون الدولي الخاص في السودان: مواد وقضايا،” الذي يقع في 536 صفحة، هو سِفْرٌ شاملٌ لا غنى لأي دارس لـ أو باحث في القانون عنه. إن كتاباته ومنشوراته، علاوة على أصالتها البائنة، تتميَّز بميزات ثلاث أخرى؛ فهي عميقة التحليل؛ وتنقل القارئ إلى نظم قانونية أخرى، لأن مناقشته للمسائل القانونية غالباً ما تكون بالمقارنة؛ وتعكس في العادة التزامه بالفلسفة الوضعية أو الشكلية في القانون، وهي فلسفة طوَّرها لحد كبير مفكرون قانونيون عظام مثل جيرمي بينثام، وجون أوستن، وأتش أل أي هارت.
لقد كانت فلسفته التعليمية هي إعداد وتهيئة الطلاب، لا للحاجات المحلية وحسب، وإنما كذلك للمنافسة العالمية. ولذلك كان شديد الإيمان بضرورة ابتعاث معيدي كلية القانون إلى الدراسة بأوروبا أو أمريكا. وحين صار ذلك أمراً عسيراً منذ بداية العقد الأخير من القرن الماضي، انبرى البروفيسور تير ليتولى، مع أساتذة كبار آخرين بكلية القانون، مهمة تدريب المعيدين وتهيئتهم للتدريس.لقد كان ليَّ شرف أن أكون أحد من أشرف عليهم البروفيسور تير، وذلك حينما كنتُ طالباً لنيل درجة الماجستير بجامعة الخرطوم، بعد إذ عرفته لأول مرة عندما درَّسنا بالسنة الرابعة مادة القانون الدولي الخاص في مرحلة البكالوريوس. لقد تعلمتُ على يديه أصول الكتابة القانونية، وإنني لعلى ثقة بأن هذا يصدق كذلك على السواد الأعظم ممن كان هو مشرفاً عليهم.
إن المعلِّم الحق لا يعلِّم في قاعات الدراسة فحسب. والبروفيسور تير كان مثلاً عظيماً للمعلِّم الذي يعلِّم متى ما سنحت له الفرصة، أو كانت هنالك حاجة للقيام بذلك. ففي كلية القانون، كان كل الطلاب، حتى من كان يدين بغير دين الإسلام منهم، ملزمين بدراسة الثقافة الإسلامية. وقد أحتج في وقت من الأوقات، كما ذكر زميلي في الدراسة، عمر عشاري محمود، الطلابُ الجنوبيون على ذلك، وانضم إليهم بعض الطلاب من مناطق شمال السودان مؤازرين. دعا البروفيسور تير الطلاب، الذين كانوا بصدد إعداد مذكرة لتقديمها إلى إدارة الجامعة، إلى مكتبه، ونصحهم بألا ينظروا إلى أنفسهم كشماليين أو جنوبيين، ولا كمسيحيين أو مسلمين، وإنما كقانونيين. وفي دولة ينقسم الناسُ فيها بشكل مثير للشفقة على أساس العرق، والمنطقة، والدين، فإن النصح الذي أسداه البروفيسور إلى طلابه هو درس لنا جميعاً بأننا بحاجة إلى التفكير وراء انقسامات مجتمعاتنا وبلادنا، إذا أردناالتوصلبصدق إلىحلول صالحة ودائمة لمشكلاتنا.
إن الحب، أياً كان، لا يمكن أن يكون كاملاً، إلا إذا كان بلا شروط وبلا حدود. وقد كان حب البروفيسور تير للقانون، والعمل الأكاديمي، والعدالة بحق غير محدود وغير مشروط. وقد انعكس ذلك في علاقته بكلية القانون بجامعة الخرطوم، إذ لم يفصله شيءٌعن كليته إلا انفصال الجنوب. وحينما أصبح استقلال الجنوب أمراً رسمياً، بعثت جامعة الخرطوم، تنفيذاً لقرار سياسي من الدولة، بخطابات إنهاء خدمة لأساتذة الجامعة وكل العاملين بها من جنوب السودان. وقد رفض أحد طلاب البروفيسور تير النجباء، وهو الدكتور الرشيد حسن سيد، الذي كان حينئذٍ عميداً لكلية القانون، تسليم خطاب إنهاء الخدمة إلى البروفيسور تير أو نقل فحواه إليه. بدلاً عن ذلك، أقترح على مدير الجامعة، البروفيسور صديق حياتي، القدوم بنفسه إلى الكلية لإبلاغ أستاذ القانون المخضرم بالقرار الذي تم اتخاذه، وقد استجاب وقَدِم.
أبلغ مدير الجامعة البروفيسور تير بقرار الإنهاء، لكنه أخبره بأن الموقف الرسمي للجامعة هو أنها تريد إبقاءه أستاذاً بها. ردَّ البروفيسور تير بأن جنوب السودان في حاجة إليه أكثر من جامعة الخرطوم، وأنه سوف يسافر إلى الجنوب، حيث تم تعيينه لاحقاً رئيساً لمفوضية المراجعة الدُستورية، لإعانة الناس هناك. لكنالبروفيسور تير قال إنه إذا سمحت الأحوال في المستقبل، فإنه سوف يكون سعيداً بالعودة إلى جامعة الخرطوم. فقال البروفيسور حياتي للبروفيسور تير: “هذه الجامعة هي جامعتك، وأنت أحد أساتذتها متى قررت العودة إليها.”
إن هذه القصة ليستْ يتيمة في تكريم جامعة الخرطوم لهذا العالم الفذ. فبمبادرة من الدكتور الرشيد حسن سيد، أصبحت اليوم القاعة التي كانت في السابق “قاعة المحاضرات رقم 3،” لطلاب الدراسات العليا “قاعة البروفيسور أكولدا مان تير للمحاضرات،” حيث يتلقى طلاب الدبلوم العالي وطلاب الماجستير في القانون دروسهم. وقد تمت إعادة تسمية القاعة باسم البروفيسور تير قبل مماته، وفي ذلك كذلك تكريمٌ له.
لقد وحَّد الرحيل المفاجئ، والمؤسف لهذا العالم العظيم بالحزن أناساً كُثر في السودان وجنوب السودان. إن وفاته هو فقد جللٌ للمعرفة والعدالة، ولكل شخص كان محظوظاً بما يكفي للارتباط به أو التعامل معه أو التعلم منه. لقد وهب طاقته الوفيرة وحياته لتدريس وتطوير وترقية علم القانون في السودان وجنوب السودان. إن أكبر إرثه، وتحديداً منشوراته المميَّزة وإشرافه على طلاب الدراسات العليا، سوف يبقى للأبد. ولسوف يبقى هو في ذاكرتي ووجداني، وبالتأكيد في ذاكرة ووجدان المئات من زملائه، وأصدقائه، وطلابه السابقين، ومعارفه، كعالم قانون مدقق وشريف المبادئ، ترك من خلفه إنجازات قانونية هائلة. إن موضوعيته، واستقامته، وصراحته، وإخلاصه، والتزامه بالعمل، وأمانته هي كلها خصالوقيم إنسانية نبيلة ونادرة، ينبغي علينا محاولة التحلي بها، إذا أردنا الحفاظ على إرثه وإحياء ذكراه. لقد كان البروف أكولدا (كما كان يسميه الناس في السودان) رجلاً طيباً. فلترقد روحُه في سلام سرمدي.
* نصرالدين عبدالباري كان أحد طلاب البروفيسور أكولدا مان تير في جامعة الخرطوم. وكان معيداً ولاحقاً محاضراً بقسم القانون الدولي والمقارن، الذي تولى البروفيسور تير رئاسته لسنين عديدة. وهو حالياً طالب دكتوراه بكلية القانون بجامعة جورجتاون. خصّ الباحث نصرالدين( سودانس ريبورترس)بهذا المقال الذى قام بترجمته للعربية،لموقعنا، فيمانُشرت النسخة الإنجليزية الأصلية، لهذا المقال بموقع ( أفريكن أرقومنس) ، التابع للجمعية الملكية الأفريقية بالمملكة المتحدة.وننشر المقال المكتوب بالإنجليزية، للمزيد من الفائدة، وبإذن من الكاتب.