%80من المعدنين السودانيين خارج مظلة السلامة المهنية
السودان يلتزم باتفاقية السلامة والصحة المهنية والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالمواد الخطرة بنسبة لا تتجاوز 20% فقط.
تقرير: قرشي عوض – عطبرة خاص (سودانس ريبورترس) – 13 أغسطس 2025
مطلع شهر يوليو 2025 “الماضي”، شهدت منطقة الهويد شرقي عطبرة، انهيار منجم تقليدي، أسفر عن وفاة 50 معدناً. هذا الحادث ليس معزولاً، إذ تتكرر حوادث انهيار المناجم في مناطق التعدين السودانية بشكل متزايد، وكان من بينها انهيار منجم في الليري بولاية جنوب كردفان في يناير 2021 أودى بحياة شخصين. وانهيار بئر في القضارف عام 2019، أودى بحياة 13 عاملاً، بالإضافة لانهيار منجم جبال النمر في البحر الأحمر عام 2022 الذي أسفر عن 11 قتيلًا.
وحذرت الشركة السودانية للموارد المعدنية من تزايد حالات الوفاة بين عمال التعدين نتيجة انهيارات الآبار، منها انهيار بئر تقليدية في منجم أغبش بجنوب دارفور.
وترجع الأسباب الرئيسية لتلك الحوادث إلى نقص وسائل السلامة، غياب فرق الإنقاذ، وشح مضخات الهواء النقي في الآبار التقليدية، التي يعتمد عليها نحو مليون سوداني كمصدر دخل.
تشير جهات مهتمة إلى أن عدم الالتزام بمعايير السلامة المهنية، يعود إلى نقص الموارد المالية الكافية، قلة التدريب، الظروف الجيولوجية غير المستقرة، ضعف الرقابة، استخدام تقنيات غير آمنة، إلى جانب نقص الوعي بأهمية السلامة المهنية.
وقال أحد المعدنين لـ(سودانس ريبورترس)، إن الحوادث سببها في كثير من الأحيان المعدنين أنفسهم، حيث يفّكُّون “الشوكالات” – الفواصل بين الآبار – لاحتوائها على معدن الذهب أو ما يُعرف بـ”العِرِق”.
من خلال جولة للمحرر في ولايتي شمال وجنوب كردفان، تبين أن إزالة الفواصل بين الآبار تتم لتصديق نفس الموقع لأكثر من جهة، ما يؤدي إلى التقاء المعدنين داخل البئر الواحدة من اتجاهات مختلفة. وهذه العمليات تتم مقابل رشاوى تدفع للجهات المسؤولة عن التصديق. وقد أُبلِغت الشركة السودانية للموارد المعدنية عن ثلاثة حالات في منطقة أم بادر، لكن دون جدوى.
الإدارة الأهلية.. تصديق الآبار
من خلال جولتنا، تبين أن الإدارة الأهلية هي الجهة التي تقوم بتصديق الآبار مقابل نصف الإنتاج الذي يتم توزيعه على عدة جهات، بينها عناصر من القوات النظامية والمحلية، وقيادات قبلية في المناطق التي يتم فيها اكتشاف الذهب. إلى جانب مخالفات أخرى مثل نزع أرض مخصصة للشباب في منطقة أبوزعيمة بحجة نزاع عليها، رغم أن شركة (زين للإتصاات) أقامت عليها برج تقوية، وهذا يعكس حجم الفساد والفوضى التي تضرب قطاع التعدين، مما يجعل شروط السلامة المهنية عرضة للإهمال أو اللامبالاة.
يأتي ذلك على الرغم من أن السودان مُوقّع ومصادق على اتفاقية منظمة العمل الدولية للسلامة والصحة المهنية (رقم 155)، التي اعتمدت عام 1981 ودخلت حيز التنفيذ في 11 أغسطس 1983، والتي تهدف إلى تعزيز السلامة المهنية في جميع النشاطات الاقتصادية.
تُلزم الاتفاقية الدول الأعضاء بوضع سياسة وطنية متسقة بشأن السلامة المهنية، تدريب العمال، وتأمين أماكن العمل والمعدات من الأخطار. كما صادق السودان على اتفاقية بيئة العمل (رقم 161) التي صدرت عام 1987، والتي تهدف إلى تحسين بيئة العمل بما يشمل الجوانب الصحية والسلامة.
وتقول الشركة السودانية للموارد المعدنية – الذراع الحكومي في مجال التعدين – إنها تولي أهمية للسلامة، حيث أنشأت إدارة للبيئة والسلامة تراقب المخاطر وتوفر معدات السلامة وتوزعها على مواقع العمل، وأصدرت دليلاً إرشادياً خاصاً بمتطلبات البيئة والسلامة، وتدعو المعدنين للالتزام بتلك المعايير.
تكمن المشكلة في أن أن علاقة الشركة بالتعدين التقليدي، الذي يشكل 80% من إنتاج الذهب، تنتهي عند بوابات أسواق الذهب حيث تتحصل على عوائدها، بينما يتم التعدين في الوديان النائية. ويأتي المعدنون بالحجارة الحاوية للمعدن إلى أسواق الطواحين حيث تُطحن لاستخلاص المعدن.
ويبدو أن معايير السلامة التي تتحدث عنها الشركة تقتصر على المربعات التعدينية التي تنتج 20% من الإنتاج، والتي تتبع شركات محددة مثل شركة أرياب، والشركة التركية. ويتم التعاقد في تلك المناطق بين أصحاب الأرض، الذين تمثلهم الإدارة الأهلية، وفق شروط محددة.
الشركة السودانية لا تتعاقد مع التعدين التقليدي، ولا تفرض عليه شروط السلامة المهنية، إذ يُعد هذا القطاع مجهولاً تقريباً بالنسبة لها، وتقتصر علاقتها به على تحصيل العوائد من عدد الجوالات التي يجلبها المعدنون إلى أسواق الطواحين. ومع ذلك، فإن الشركة على علم بالمخاطر المحيطة بالتعدين التقليدي، كما أظهرت تقارير صحفية، بما في ذلك غياب إجراءات السلامة الأساسية وارتباطه أحياناً بالتعدين العشوائي.
خلال جولة ميدانية، رصدنا ظاهرة “آبار المراحيم”؛ وهي آبار انهارت فوق أصحابها وأصبحت مقابر لهم، ولا تزال المياه التي تتجمع في هذه الآبار، تُستخدم للشرب خلال موسم الخريف.
كما أظهرت دراسات أكاديمية، من جامعة السودان وجامعة الخرطوم، والتي أوردها الأستاذ محمد صلاح في كتابه عن الكلفة الاجتماعية لتعدين الذهب، وجود مادة الزئبق في طمي النيل وفي أسماك بحيرة النوبة، ما يدل على تأثير سلبي للتعدين على البيئة والصحة.
رغم هذه المخاطر، تظل الشركة متمسكة بالتعدين التقليدي لأنه يمد الشركات التي تعمل في استخلاص المخلفات بـ(الكرتة) بالمادة الخام، مما يعفيها من القيام بمرحلة كاملة من الإنتاج.
غياب معايير السلامة
هذه الشركات، حسب معلومات كشفت عنها لجنة “تفكيك نظام الثلاثين من يونيو” بوزارة المالية، لا تلتزم بإجراءات التسجيل القانونية، فضلاً عن غياب معايير السلامة المهنية. ويصعب التعرف على مواقع نشاطها إلّا من خلال القضايا القانونية المرفوعة ضدها، في محاكم السودان المختلفة. والعقود الموقعة بينها وبين شركة (سودامين) التي تمثل الدولة غالباً غير مكتملة من الناحية القانونية، ويرفض بعض ممثليها الإفصاح عن بياناتهم الشخصية، كما وُقِّعت معظم العقود خارج موقع الشركة نفسها، التي رُفعت قضايا ضدها، وأُصدِرت أحكاماً بمخالفتها للقانون في محاكم عدة.
من ناحية أخرى، تعتبر شركة “سودامين” الجهة المسؤولة قانونياً عن التوريد والاتجار في مواد الاستخلاص الخطرة، ولا يحق لأي جهة أخرى التعامل بها، حيث تحكمها اتفاقيات دولية صادق عليها السودان، تشمل تنظيم طرق استخدامها ونقلها وتخزينها. ومع ذلك، رصدت تقارير صحفية وصول كميات من هذه المواد إلى مطار الخرطوم، وتتبع للقطاع الخاص، إضافة لانتشارها في الأسواق، حيث لا تُراعي معايير السلامة الدولية في التخلص منها.
تُربة ملوثة
الزئبق، على سبيل المثال، يُحرق عند أطراف تلك الأسواق، وتُغسل الخلاطات والشاحنات التي تنقل المخلفات المشبعة به في النيل بمنطقة العبيدية، على بعد كيلومتر واحد من مضرب مياه الشرب. وفي مناطق الرباطاب تُغسل التربة الملوثة على بعد 200 متر من النيل، رغم أن القانون يمنع ممارسة التعدين إلّا على بعد 10 كيلومترات، من المناطق السكنية، لأن الزئبق مادة طيارة تنتقل عبر الهواء.
كما يُمنع نقل التراب الملوث من منطقة لأخرى أو عبور الشاحنات التي تنقله عبر الكباري، مع أن التعدين يتم في مناطق نائية، بينما تتم عمليات الاستخلاص في أسواق قريبة من المدن، مثل سوق دارمالي (4 كيلومترات من المنطقة السكنية)، وسوق النويرة شرق عطبرة، وسوق العبيدية، وأبوحمد، وسوق أُم بادر، وأبو زعيمة في شمال كردفان، وأسواق باجون والتقولة في جنوب كردفان.
بناء على الشواهد المذكورة، يمكن القول إن السودان يلتزم باتفاقية السلامة والصحة المهنية والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالمواد الخطرة بنسبة لا تتجاوز 20% فقط.
*الصور من الإنترنيت




