المعاشيون في السودان: معاناة لا تنتهي بعد نهاية الخدمة
التكافل الاجتماعي بين السودانيين وتحويلات المغتربين هما السببان الرئيسيان لبقائهم على قيد الحياة
تقرير: قرشي عوض خاص (سودانس ريبورترس) … 12 أغسطس 2025
يمثل المعاشيون في السودان شريحة كبيرة من المجتمع تحملت أعباء خدمة الوطن طوال سنوات، لكنها – اليوم – تواجه تحدّيات جسيمة بعد انتهاء خدماتها الرسمية. كان من المفترض أن تنهي هذه الفئة مرحلة الصراع على الحقوق بمجرد تقاعدها، وتبدأ مرحلة جديدة من الاستقرار والرعاية الصحية والاجتماعية، لكن الواقع اختلف تماماً.
ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، وجد المعاشيون أنفسهم في قلب أزمة إنسانية مزدوجة؛ فبالإضافة إلى تحديات الشيخوخة والأمراض المزمنة، اضطر الكثيرون منهم للنزوح إلى دول الجوار، خاصة مصر – بسبب قُرب المعبر- هرباً من ويلات الحرب وظروف المعيشة الصعبة.
هذا النزوح الإجباري، لم يخفف من معاناتهم، بل أضاف إليها أعباء جديدة تمثلت في تأخر صرف المعاشات، والفروق الكبيرة في أنظمة التقاعد والتأمينات الاجتماعية، واستباحة أموالهم المستثمرة، إضافة إلى ضعف الدعم الحكومي وانعدام المشاركة الفعلية لهم في إدارة حقوقهم المالية.
من خلال هذا التقرير، نستعرض الواقع المأساوي الذي يعيشه المعاشيون السودانيون في الوطن والمهجر، أبرز مشاكلهم، مطالبهم، والتحركات التي قاموا بها للدفاع عن حقوقهم في ظل ظروف استثنائية وصعبة.
أبرز مشاكل المعاشيين
يوضح المعاشي سيد أحمد قناوي لـ(سودانس ريبورترس) أن مشاكل المعاشيين متشابهة، وأبرزها هضم حقوقهم، وعجزهم عن مواجهة التحديات المعيشية التي تتطلب مبالغ بسيطة لا تتوفر لهم… ويضيف معاشي آخر: “أغلب المعاشيين يعانون أمراضاً مزمنة، وهو ما دفعهم إلى النزوح إلى مصر بحثاً عن العلاج المتوفر”، بينما يشير قناوي إلى أن لديهم مناديب في مدينة بورتسودان يتواصلون معهم لطرح مطالبهم، لكنها، لا تجد آذاناً صاغية.
يتصدر ضعف المعاش وعدم انتظام صرفه في المواعيد المحددة قائمة المطالب لدى المعاشيين، إذ تعاني بعض البنوك من تأخيرات في الصرف، ما يفاقم معاناة المعاشيين.
ويتراوح جدول المعاش بحسب الدرجة الوظيفية بين 37 ألف جنيه و80 ألف جنيه، رغم صدور قرار من مجلس الوزراء بزيادة نسبتها 15% منذ يناير 2023 لم يُطبق حتى الآن، وبحسب متابعات (سوادنس ريبورترس)، مع معاشيين ومعاشّيات، فإنّ أعلى معاش للموظفين/ات فى “الدرجة الأولى” لم يتجاوز بعد الـ(63 ألف جنيه سوداني) أي ما يُعادل الـ(21 دولار أمريكي) تقريباً !!.
الفروقات في نظام المعاشات
يشير المعاشي هاشم محمد لـ(سودانس ريبورترس) إلى وجود فجوة واضحة بين معاشات موظفي الخدمة المدنية في القطاع العام، والعاملين في القطاع الخاص الخاضعين لنظام التأمينات الاجتماعية، إذ يقول: “هناك صندوق قومي للصرف، وصندوق خاص بالخدمة المدنية، وتأمينات اجتماعية، والمفارقات كبيرة في المعاشات. فمثلاً، معظم منتسبي التأمينات يتقاضون مبلغاً موحداً يبلغ 37 ألف جنيه شهرياً، بينما الصندوق القومي يطبق هيكل معاشي متنوع… هنا تكمن المشكلة، ولا بد من معالجة معاشات التأمينات الاجتماعية.”
ويرى المعاشي، علي عسيلات في حديث لـ(سودانس ريبورترس) ضرورة توحيد المعاشيين في صندوق واحد، والكف عن تفتيتهم بين صندوقين بحركة “مستهبِلة” لا تعني سوى توزيع المغانم فقط.
من جانب آخر، يشير قنديل عمر حمزة، عضو اتحاد معاشي ولاية الخرطوم لـ( سودانس ريبورترس)، إلى تأثير التضخم الحاد على قيمة المعاشات، خاصة مع تعديلات متكررة في قانون المعاشات، وخصوصاً مادة “الاستبدال” التي تعادل ثلث المعاش، وفق جدول محدد. قبل التعديل، كانت قيمة الاستبدال تصل إلى ملايين الجنيهات عندما كانت العملة مستقرة، أما – الآن – فقد فقد الجنيه السوداني أكثر من 400% من قيمته بسبب التضخم والفساد.
وفي ظل ضآلة المعاش، يجد المعاشي نفسه محاصراً بين معاناة النزوح واللجوء، وعدم التزام الدولة بقرارات مجلس الوزراء، التي ظلت تُماطل حتى دخلنا العام الثالث على الحرب.
استثمار أموال المعاشيين
يعاني المعاشيون من استباحة أموالهم المستقطعة، عبر ما يُعرف بالجهاز الاستثماري الذي يدير استثمارات المعاشيين، حيث تشير المعلومات إلى تعرُّض أموالهم للنهب من قبل القائمين على إدارة الجهاز، وبمساعدة الوزير المسؤول، وهناك أدلة كثيرة على ذلك.
ويشدّد علي عسيلات على أهمية منح المعاشيين حق المشاركة في إدارة أموالهم المتراكمة منذ عقود، بل قبل الاستقلال. ويتساءل: “ما المنطق في أن يدير أموال المعاشيين غيرهم؟” مضيفاً: “يجب أن نتمسك بتمثيلنا ونختار من يمثلنا في إدارة أموالنا، فنحن نمتلك الكفاءات الإدارية والفنية والمالية التي تكفي لإدارة مؤسسات الدولة كاملة.”
ويذكر أن أموال المعاشيين المستثمرة تشمل مؤسسات وعمارات وأراضٍ وشركات وبنوك وسلفيات ضخمة، بل، حتى الحكومة تلجأ إلى هذه الأموال لحل مشاكلها، وعليه يقول: مال المعاشيين هو “مولد، وسيدو غائب.”
احتجاجات ولقاءات رسمية
أفاد عضو اتحاد المعاشيين، صلاح سيد أحمد، في حديث لـ(سودانس ريبورترس) بأنهم أقاموا وقفات احتجاجية وندوات في مؤسسة “طيبة برس” قبل اندلاع الحرب، تم خلالها تلخيص المخرجات ونشرها في صحف محلية وإلكترونية، ورافقها حضور إعلامي من قنوات مثل “الجزيرة” و”سودان بُكرا”.
وعند تنفيذ جدول المعاشات الجديد، احتج معاشيو التأمينات بسبب زيادة الخصم من مرتباتهم مقارنة بمعاشي الخدمة المدنية، ما استدعى تحديد موعد اجتماع لحل المشكلة، إلا أن اندلاع الحرب أجبر الصندوق على تثبيت معاشي التأمينات عند الحد الأدنى (37 ألف جنيه) مؤقتاً حتى توقف الحرب.
وفي 30 يوليو 2025، استقبل سفير السودان بالقاهرة مدير عام الصندوق الوطني للمعاشات والتأمينات الاجتماعية، السيدة رجاء أنيس برسوم، حيث تم استعراض مجمل التعاون بين السودان ومصر في هذا المجال، بحسب الوكالة السودانية للأنباء. لكن، المعاشيين في مصر أخذوا على مديرة الصندوق، عدم لقاء ممثلين لهم خلال زيارتها الرسمية، ويأملون أن يتم ذلك في المستقبل.
وضع المعاشيين في مصر
أعلن وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، معتصم أحمد صالح، التزامه بتحسين أوضاع المعاشيين من خلال تطبيق زيادة بنسبة 15% في مستحقاتهم، وهي زيادة سبق أن قررها رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك ولم تُصرف – بعد – منذ عام 2023.
وقد أثار تجديد الإعلان تحفظات المعاشيين، حيث قال عمر مختار بلة من ولاية الخرطوم لـ(سودانس ريبورترس) إن القرار ليس في مصلحتهم، لأنهم يستحقون زيادة 15% منذ عام 2023، ويجب احتسابها بشكل مركب لعامي 2024 و2025، مع الأخذ في الاعتبار التغيُّرات في الرواتب خلال هذه السنوات.. وأضاف: “يجب أن يتم تمييز استحقاق كل معاش حسب مدة الخدمة.”
من جهة أخرى، رفع اتحاد المعاشيين في مصر، الذي يستقبل أكبر عدد من المعاشيين السودانيين، مذكرة في 30 أبريل 2025 إلى سفير السودان، أوضح فيها وجود 1,328 معاشياً نازحين في مصر، لا يملكون مصدر دخل سوى معاشاتهم الشهرية، ومع ذلك عليهم تحمل التزامات مالية كبيرة مثل الإيجار والعلاج والمعيشة والرسوم الدراسية والتواصل مع أهلهم.
وطالب الاتحاد السفير التنسيق مع إدارة الصندوق الوطني للمعاشات والتأمينات الاجتماعية بالسودان لوضع آلية لصرف المعاشات للنازحين في مصر، خاصة المرضى منهم الذين لم يتمكنوا من العودة بسبب غياب مصاريف السفر، فضلاً عن توقف العلاج نتيجة انقطاع التمويل. كما طالبوا بإعفاء المعاشيين من رسوم توكيل صرف المعاش لذويهم بالسودان، علماً بأنه سبق الاتفاق على مجانيّة التوكيل، إلا أن ذلك لم يُطبق.
وطالب الاتحاد أيضاً بإعفاء المعاشيين في مصر من رسوم تجديد جوازات السفر لهم ولأسرهم، نظراً لأن تكلفة التجديد في مصر أعلى من قيمة المعاش الشهري، وأعلى من تكلفة استخراجه في السودان.
كما طالب بإسناد المعاشيين المرضى الذين لا يملكون تكلفة العلاج بسبب ضعف المعاش، ودعم أبناء وبنات المعاشيين الطلاب، وحمايتهم/ن من جشع المدارس الخاصة السودانية التي تشرف عليها القنصلية، وتبنِّي تمويل مواصلة التعليم الجامعي للطالبات والطلاب.
وطالب الاتحاد السفارة بالتنسيق مع مدير عام الصندوق الوطني للمعاشات والتأمينات الاجتماعية لتحويل معاشات السودانيين المقيمين بمصر لصرفها عبر السفارة، إضافة إلى حل القضايا العالقة الأخرى.
تحفظات المعاشيين على القرارات الحكومية
يرى المعاشي عثمان عبده حميدة من ولاية الخرطوم، أنه كان من الأجدى استغلال زيارة رئيسة الاتحاد القومي للمعاشات الحالية إلى مصر لمناقشة الاتحاد العام لمعاشيي مصر، لتجميد البروتوكول الموقع بين الاتحادين، والذي ينص على تقديم خصم 50% على السكن في الجامعة العمالية، وتسهيلات في العلاج بالمستشفيات، لكن تم تجميد هذا البروتوكول لأسباب أمنية خلال فترة الحرب.
وأضاف عثمان لـ(سودانس ريبورتس) أنه عند مناقشته لهذا الأمر مع رئيس الاتحاد المصري وبعض المسؤولين، أكدوا أن التجميد لأسباب أمنية.
وأشار صلاح سيد أحمد، سكرتير اتحاد المعاشيين بمصر، إلى أن هذه الظروف تخص المعاشيين في مصر، وهم جميعهم من ولاية الخرطوم الذين تمكنوا من النزوح مع بداية الحرب، بينما يعاني معاشيو الولايات الأخرى من مشاكل مماثلة في ظروف أصعب.
وأكد معاشيون آخرون أن التكافل الاجتماعي بين السودانيين وتحويلات المغتربين هما السببان الرئيسيان لبقائهم على قيد الحياة، بعد عناية الله.
التكافل الاجتماعي والتحديات الأمنية
رغم المرض وتقدم السن، يؤكد علي عسيلات على ضرورة استمرار الصراع لنيل الحقوق، قائلاً: “مع مراعاة قدرات المعاشيين، لكن نمشي ونجي للكلام ده، و”حقك تلاوي وتقلعو”، فى أشارة واضحة غلى أهمية أن يُوحّد المعاشيون والمعاشيات جهودهم/ن، لـ”ـتنظيم” أنفسهم/ن، للمطالبة بحقوقهم/ن، والدفاع عن مصالحهم/ن، لتحقيق النجاح فى انتزاع حقوقهم/ن… وهو المطلوب !.
الصورة من الإنترنيت




