اخبارالسودانتقاريرسلايدر

العدالة المؤجلة.. الإفلات من العقاب يتصدر مشهد الانتهاكات في السودان

نظام العدالة السوداني غير قادر حالياً على ضمان محاكمات عادلة للمتورطين في الجرائم

العدالة المؤجلة.. الإفلات من العقاب يتصدر مشهد الانتهاكات في السودان

نظام العدالة السوداني غير قادر حالياً على ضمان محاكمات عادلة للمتورطين في الجرائم

تقرير – حسيبة سليمان  – خاص (سودانس ريبورترس) … 5 أغسطس 2025

في ظل واحدة من أكثر الفترات اضطراباً في تاريخ السودان الحديث، تتصدر العدالة الانتقالية سُلّم أولويات الضحايا وذويهم، في وقت تتزايد فيه الانتهاكات الجسيمة دون مساءلة تُذكر، وتتواصل فيه دوامة الإفلات من العقاب، وفق ما توثقه تقارير “المفوضية السامية لحقوق الإنسان”، ومنظمة “هيومن رايتس ووتش”. فقد شهدت عدة أقاليم سودانية، لا سيما دارفور، وولاية الخرطوم، وولاية الجزيرة، وولاية جنوب كردفان، وولاية غرب كردفان، وولاية شمال كردفان، انتهاكات واسعة شملت القتل خارج إطار القانون، والعنف الجنسي، والتطهير العرقي، وسط غياب تام لأي تحرك قضائي جاد.

دولة الرجل الواحد

وسط هذا المشهد المعقد، تبرز إفادة المحامي والخبير القانوني، معز حضرة، كشهادة حية تكشف عمق الانهيار في منظومة العدالة. إذ يرى حضرة أن الإفلات من العقاب لم يعد مجرد عرض جانبي للحرب، بل بات سمة لصيقة بالحكم في السودان، مشيراً إلى أن تركيز السلطات في يد رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، هو ما يجعل من العدالة مسألة خاضعة للإرادة السياسية لا القانون.

وقال حضرة في حديث خاص لــ(سودانس ريبورترس): “الإفلات من العقاب هو النتيجة الحتمية لغياب دولة القانون، حيث لا استقلال للقضاء، ولا النيابة العامة، وكل المؤسسات العدلية، أصبحت رهينة لسلطة الرجل الواحد”. وأضاف: “البرهان يمسك بكافة مفاصل الدولة، يُعيّن النائب العام، ووزير العدل، ورئيس القضاء، وبالتالي فإن هذه الركائز التي يُفترض أن تُشكِّل منظومة العدالة تحولت إلى أدوات طيعة في يد شخص واحد”.

وتابع حضرة أن غياب الفصل بين السلطات، وتحكم السلطة التنفيذية في المؤسسات العدلية، قد أفرز ما وصفه بـ”العدالة الانتقائية”، مؤكداً أن هذه العدالة تستهدف المعارضين والناشطين على أسس جهوية وعرقية، واصفاً ذلك بـ”الخطر الداهم، الذي يهدد وحدة السودان”.

عدالة انتقائية… ووجه عنصري

واعتبر حضرة أن المحاكمات الجارية حالياً ضد بعض المواطنين المنحدرين من دارفور وجبال النوبة وكردفان تعكس ممارسات، يُمكن وصفها بـ”العدالة الانتقائية”، مشيراً إلى أن هذه المحاكمات تتم بطرق جهوية، تحت مسمى “الوجوه الغريبة”، رغم عدم وجود نص قانوني يقر بذلك.

ولفت إلى أن مثل هذه الممارسات تفتح الباب واسعاً للإفلات من العقاب، حيث يتم تسييس العدالة وتوجيهها ضد فئات بعينها، بينما يُترك الجناة الحقيقيون دون محاسبة، بل ويُطلق سراحهم في بعض الحالات.

وفي هذا السياق، وصف حضرة إخلاء السجون عقب اندلاع الحرب في عام 2023، بأنه “أكبر عملية إفلات من العقاب في التاريخ السوداني الحديث”، مؤكداً أن العملية شملت آلاف السجناء، بمن فيهم رموز النظام السابق المطلوبين للعدالة.

وأوضح: ما جرى بعد اندلاع الحرب من إفراغ للسجون، خاصة في العاصمة الخرطوم، شمل شخصيات بارزة، مثل عمر البشير، وعبد الرحيم محمد حسين، وأحمد هارون، الذين لا يزالون محميين من قبل السلطات في بورتسودان، رغم أنهم مطلوبون لدى المحكمة الجنائية الدولية.

 

إفلات الجناة… وتمادي الجرائم

وربط حضرة بين الإفلات من العقاب وتكرار الجرائم، مؤكداً أن عدم محاسبة مرتكبي انتهاكات دارفور في عامي 2003 و2004، أدى إلى تكرار ذات الجرائم في السنوات اللاحقة، سواء في الجنينة أو في الخرطوم، أو خلال أحداث فض اعتصام القيادة العامة عام 2019.

وقال: لو جرى إنزال العقوبة بمن ارتكبوا هذه الجرائم، لما تكررت، لكن غياب العدالة والإفلات من العقاب، شجّع الجُناة على المضي قدماً، فى مواصلة اؤتكاب الانتهاكات، والنتيجة هي استمرار الدمار والدم في السودان. وأضاف أن الإفلات من العقاب ظل السمة الغالبة طوال العقود الماضية، وسيستمر ما لم تُبن دولة المؤسسات القضائية المستقلة.

تقرير أممي وتوصيات حاسمة

وفي تأكيد دولي على عمق الأزمة، أفاد تقرير لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، الصادر أواخر عام 2024، بأن “نظام العدالة السوداني غير قادر حالياً على ضمان محاكمات عادلة للمتورطين في الجرائم الدولية”، مشددا على ضرورة إنشاء آلية مختلطة – وطنية ودولية – لضمان العدالة للضحايا.

وأشار التقرير إلى “نمط واضح من التواطؤ الرسمي واللامبالاة، إزاء الجرائم المرتكبة في النزاع الحالي”، وهو ما يفاقم الشعور باللاعدالة لدى ضحايا الحروب والانتهاكات.

عدالة بلا رمزية

وفي ظل هذا الواقع، يؤكد مراقبون حقوقيون أن العدالة الانتقالية لا يمكن اختزالها في محاكمات رمزية أو لجان تفتقر إلى الصلاحيات. بل إن المسار الحقيقي للعدالة في السودان، يقتضي كشف الحقيقة، وجبر الضرر، وضمان عدم التكرار، وهو ما يتطلب إصلاحا مؤسسياً شاملاً، وإرادة سياسية صادقة.

وفي هذا السياق، دعت منظمة العفو الدولية إلى ضرورة إشراك الضحايا والمجتمع المدني، لاسيما النساء والنازحين، في مسارات العدالة، بوصفهم الفئات الأكثر تضرراً من النزاعات، وغالباً ما يتم تغييبهم من العمليات الرسمية.

المحكمة الجنائية… واستعداد مشروط

وفي مداخلة ذات صلة، قال المحامي عبدالباسط الحاج لــ(سودانس ريبورتس) إن مسألة تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، تظل مرهونة بتعاون الحكومة السودانية، لافتاً إلى أن هؤلاء المطلوبين كانوا موقوفين على ذمة قضايا داخلية، لا علاقة لها بالمحكمة الجنائية.

وأضاف الحاج أن الحكومة السودانية لم تُظهر أي تعاون جاد في هذا الملف، ولم يُناقش الأمر في مذكرة التفاهم التي تم توقيعها خلال الفترة الانتقالية، مشيراً إلى أن الحركات المسلحة، رغم مطالبتها بتنفيذ اتفاق جوبا، تظل محدودة التأثير بسبب المتغيرات السياسية التي أعقبت الانقلاب العسكري واندلاع الحرب.

وأكد أن المحكمة الجنائية الدولية مستعدة تماماً لبدء المحاكمات “إذا ما تم تسليم المطلوبين”، مشدداً في الوقت ذاته على أن الأمر يظل مرهوناً بإرادة الدولة السودانية، وتحديداً الأجهزة السيادية والقضائية المختصة.

 

العدالة أولاً…

وفي ظل هذا المشهد المعقد، تبقى العدالة حجر الزاوية في أي مسعى حقيقي للسلام والمصالحة في السودان. فبدون محاسبة عادلة للجناة، وإنصاف للضحايا، سيظل الصراع مفتوحاً، وستبقى البلاد رهينة دوامة الدم والانتهاكات.

ويُجمع الحقوقيون على أن كسر حلقة الإفلات من العقاب لم يعد ترفاً سياسياًٍ، بل مسألة ضرورية، لبلد أنهكته الحروب، إذ لا سلام دون عدالة، ولا دولة دون مؤسسات مستقلة، تحمي الحقوق وتصون القانون، وتحقّق الإنصاف وجبر الضرر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى