(المعاشيون)… من مقلاة الفقر إلى نيران الحرب … الحرمان من المعاش، جريمة، لا تُغتفر
الحرب أفقرت المعاشيين، وزادت من معاناتهم، في ملاحقة صرف المعاش، والمتأخرات المتراكمة
تقرير: مشاعر رمضان خاص (سودانس ريبورترس) … 17 يوليو 2025
ازدادت معدلات الفقر والعوز في السودان بعد الحرب، بين الجيش، وقوات الدعم السريع، في أبريل 2023، حيث خلّفت اوضاعاً انسانيةً معقدة، رمت بظلالها على فئات المجتمع الضعيفة، من موظفيين، وعمال، ومتقاعدين (المعاشيين)، ولكن، يتعرّض المعاشيون لتحديات فريدة، بسبب تقدمهم في السن… وفي ظل النزاع، يفتقرون إلى الرعاية الصحية والاجتماعية، وتتأثر حياتهم بشكل كبير… هذا التقرير يسلط الضوء على تأثير الحرب عليهم.
في مايو الماضي أعلن وكيل وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي في تصريحات صحفية، إيفاء وزارته كامل إلتزاماتها المجازة في الموازنة، خلال الفترة من يناير- مايو من العام المالي الجاري 2025، بإكتمال سداد كافة مطلوبات المجهود الحربي، كأولوية، وسداد مرتبات العاملين بالوحدات الاتحادية، وكافة استحقاقات المعاشيين للفترة المذكورة، بجانب منحة العيدين، وسداد التزامات الحكومة تجاه الصندوق القومي للتأمين الصحي…هذا التصريح يفتح باب التساؤل: ماذا فعلت الحرب بفئة المتقاعدين (المعاشيين)، وكيف تُدار عجلة حياتهم، بعد دخول الحرب عامها الثالث؟!.
معاناة مستمرة
مشهد ماساوي للمعاناة التي يعيشها المعاشيون بالسودان، قبل، وبعد الحرب، يرويه المعاشي الطيب فريجون، مُبيناً أن كل أو أغلب معاشيي الخدمة المدنية، بولاية الخرطوم، تحولت حياتهم إلى جحيم، بسبب العوز، بعد أن فقد المعاش قيمته، لارتفاع نسبة التضخم، ولانخفاض قيمة صرف الجنيه، أيضاً، تأثر المعاشي بتوقف العمل ببطاقة التأمين الصحي، وتوقف العمل بلائحة الخدمات الاجتماعية، مضيفاً، “كل ذلك، ومبلغ المعاش، بالنسبة لمتقاعد بالدرجة الثالثة القيادية العليا، بالخدمة المدنية، لا يتجاوز مبلغ 56 ألف جنيه سوداني، في الشهر، في ظل وضع اقتصادي متدهور، بسبب الحرب، مبيناً، أن هذا المبلغ، لا يكاد يغطي احتياجات ثلاثة أيام، لأسرة صغيرة… وأردف ،هذا المبلغ المعاش الزهيد، لم يكن من السهل الحصول عليه، أثناء الحرب، وحركة الناس مابين نزوحٍ، ولجوء فضلاً، عن صعوبة التنقل، للوصول لمنافذ الصرف بالمناطق الآمنة.
وقال محمد عثمان الخليفة – متقاعد، ورب أُسرة من 7 أفراد –”إن المعاشيين، بالولايات الآمنة لم يصرفوا فروق معاشاتهم، لمدة ستة أشهر، بعد التعديلات، التي طرأت على فئة المعاشات بتعديله من 9 آلاف جنيه سوداني، إلى 12 ألف جنيه، على رغم أن قرار التعديل صادر منذ عامين، وكانوا ينتظرون سريان التعديل، منذ يوليو 2022، وكذلك الفروق بين الفئة القديمة، والجديدة، عن الشهرين الأولين من عام 2023.
وتوضّح المعلمة المتقاعدة زهراء كبوشية، أن الحرب أفقرت المعاشيين، وزادت من معاناتهم، في ملاحقة صرف المعاش، والمتأخرات المتراكمة، بسبب الحرب قائلة: في الأشهر الأولي للحرب، كُنّا نلاحق الصفوف بالبنوك، بمدينة مدني، لكن، بعد اجتياحها، ومع النزوح لقري وولايات آمنة، شق الأمر على الجميع، وحتى اللحظة، لم أحصل على متأخرات معاشي، لضعف التغذية، بالبنك الذي اصرف منه.
إلّا أن الناشط على التواصل الاجتماعي، والمتقاعد محجوب عبيد، يرى أن الفرصة مواتية لطرح قضايا المعاشيين، أمام طاولة رئيس الوزراء، ورفع الظلم البين على المعاشيين، والعمل الجاد لإصلاح المنظومة المعاشية، وفي مقدمتها، تعديل قانون المعاشات، خاصة المواد المتعلقه بتكوين مجلس الإداره للصندوق، ومفوضية الجهاز الاستثماري للمعاشيين، ومنع تغوُّل الدوله علي استثمارات المعاشيين… لكنه نبّه إلى أهمية التنسيق مع شركاء الإنتاج، خاصة اتحادي العمال، وأصحاب العمل، بحكم المصلحة المشتركة في تعديل القانون… ويرى محجوب عبيد، ضرورة واهمية وضع تشريع خاص لتنظيم قانون لكيانات المعاشيين، بدلاً من إخضاعها – كما يحدث حاليا – لقانون العمل الطوعي والإنساني، والذي لايتناسب مع أنشطة المعاشيين.
ملفات عالقة
وأوضح مصدر مسؤول بالصندوق القومي للمعاشات، في تصريحات صحفية، أن الصندوق لا يزال يقوم بدوره من خلال مكاتبه الفرعية بالولايات الآمنة، التي لم تتوقف عن العمل، منذ نشوب الحرب.. أمّا الذين أحضروا ملفاتهم إلى الصندوق، بغرض اكتمال إجراءات إدراجهم، في كشوفات المعاشيين، واندلعت الحرب قبل أن تكتمل الإجراءات، فهؤلاء هم أصحاب المشكلة الحقيقية، بحسب المصدر المسؤول، لأن ملفاتهم لا تزال عالقة هناك، سواء، في ولاية الخرطوم، أو بمدينة ود مدني، بولاية الجزيرة، وكل المناطق الغير آمنه حتى الآن.
من جانبه أوضح مدير إدارة الإعلام الأسبق للصندوق القومي للمعاشات، الطيب كنونة لـ(لسودانس ريبورترس) أن عمل صندوق المعاشات، يختص بالموظفيين، الذين يخضعون لقانون المعاشات بالقطاعين (الحكومي والخاص)، وهو التامين الاجتماعي، و يشمل الشركات، والمؤسسات، والتي ليس لها صلة بنظام التمويل الحكومي، بل، تُموّل نفسها، تمويلاً ذاتياً… هذا النظام، شارك في تأسيسه، عدد كبير من الخبراء السودانيين، والاجانب.. وأضاف “نظام المعاشات إجبارياً، بالنسبة للقطاع الحكومي، عبر الاشتراك الشهري، بحيث يدفع المنتفع 8% من راتبه، وتدفع االحكومة 17%، يتم ادخارها، وتُدفع له مستقبلاً”… وأردف قائلاً: “تم إنشاء نظام الاستثمار والضمان الاجتماعي، بغرض استثمار فائض أموال المعاشات، والتأمينات الاجتماعية، ويتم ادخاره، ويُدفع فيما بعد، بنسبة محددة”.
وأشار كنونة إلى أنّ نظام المعاشات في السودان، أُدخل عليه عدد كبير من التحسينات، بغرض زيادة المنافع للمعاشيين، إذ يغطي 383 ألف معاشي، بحسب آخر إحصائية، قبل الحرب، فضلاً، عن وجود بعض الحالات، التي لم يتم تسويتها، إذا كانت ملفات (أحياء أو وُثات) وهي مازالت قيد التنفيذ، ولفت إلي أن الصندوق، يعمل عبر التعامل المباشر، من خلال 50 مكتب، بولايات السودان المختلفة، وأيضاً، يتعاون مع النظام المصري، لدفع استحقاقات المصريين، الذين عملوا بالسودان، وفي نفس الوقت، يدفع المصريون للسودانيين الذين عملوا بمصر… وعدّد الطيب كنونة، عدد من المزايا (لنظام المعاشات)، إذ تمكّن من تمويل المعاشيين، وأعانهم من احتراف عدد من المهن، والحرف بعد التقاعد من الخدمة، وفق شروط ومقتضيات معينة، وهي شراكة بين ا(لمعاشات) و(المعاشي)، وتخصم من معاشه، حسب قيمة المبلغ الذي يتم فيه الاستثمار.
ونبّه كنونة، إلى تراكم أعداد كبيرة من الحالات التي لم يتم تسويتها، قبل، واثناء الحرب، فضلاً عن إغلاق عدد من المكاتب، في ولايات السودان، باستثناء المناطق الآمنة، الأمر الذي ألغى بظلالٍ سالبة، على نظام المعاشات في السودان، و لكنه، أكد أن من لديهم حسابات بالبنوك، يجري دفع معاشتهم، واستحقاقاتهم شهرياً دون أي عقبات.
واضاف كنونة: في ظل الحرب، فقد عدد كبير من المعاشيين، ميزات كثيرة، خاصة بالدعومات الاجتماعية، والتامين الصحي، وكفالة للطلاب، وإعانات للسفر للمرضى، كل ذلك، تم فقدانه، كما فقدوا خاصية التواصل مع بعضهم البعض… وأشار إلى أنّ النظام نفسه، فقد الكثيرمن المباني، والممتلكات، والتي يجري حصرها الآن …لكنه، عاد و استدرك بالقول: “الخسارة الأكبر، وقعت على المعاشيين وأُسرهم، إذ أنّ قطاع المعاشات من أكثر القطاعات تضرراً من الحرب، وويلاتها” … وأوصي الطيب كنونة، بعمل دراسات ومقترحات من القائمين على الأمر لتطويرعمل الصندوق القومي للمعاشات، حتى يتمكن من الاستمرار في تقديم خدماته، حتى تشمل التغطية، العدد الأكبر، والذي لم يتم تسوية استحقاقاتهم، في ظل هذه الظروف، وما تلاها، لفئة أفنت زهرة شبابها، وقدمت الكثير للسودان .
من جهته، انتقد الخبير الاقتصادي كمال كرار، إهمال الحكومة للمعاشيين، وتركهم دون مزايا، بعد التقاعد، بقوله: “المعاشيون، ومن قبل اندلاع الحرب، كانوا في حرب ضروس مع الحكومة، التي لم تأبه لهم، وهم يواجهون الانهيار المستمر، في معاشاتهم الضئيلة، بسبب التضخُّم، والغلاء، دون استعداد حكومي لتحسين المعاشات، أو توفير مزايا للمعاشيين”.
ورغم صعود الأسعار والتضخم إلى أرقام فلكية، خلال عامي الحرب، لفت كرار الانتباه إلى أنّ المعاشات الشهرية، لازالت تتراوح مابين ٣٧- ٨٠ ألف جنيه، وبحساب التضخم، فقد المعاشيون ٨٥٪ من قيمة معاشاتهم الشرائية، منذ بدء الحرب ..
وأردف كرار: “ورغم ضآلة هذه المعاشات، فان معظمها، لم يُسدّد منذ عامين، وتتعدد الأسباب، والنتيجة واحدة، تارةً تكون الحجة ضياع الملفات، وحرق المكاتب، ونهبها، وتارةً أنّ وزارة المالية لاتفي بمسؤوليتها، في تسديد الأموال المستحقة، لصندوق المعاشات، وتارةً أخرى، بسبب إغلاق المؤسسات العامة، والخاصة، وتسريح العمال والموظفين … والنتيجة، لا معاشات إلى حين إشعار آخر..”!.
واتهم كرار، وزارة المالية، بوضع يدها على أموال المعاشيين، والتصرف فيها، بقوله “من الواضح أنّ أموال المعاشيين – نفسها – كانت ولوقت طويل، عُرضة للتبديد، بفعل الفساد في الصناديق المشرفة عليها، وضاعت المليارات بسبب الاستثمارات الوهمية، ووزارة المالية نفسها، وضعت يدها على أموال المعاشيين، كمصدر لتمويل الصرف الحكومي”.
وأوضح كرار، أنّ موازنات العامين الماضيين، لم يكشف عن ارقامهما، كيما يتبين، هل سُددت استقطاعات المعاشيين، للصناديق المختصة، أم دخلت في (بطن) وزارة المالية… وعاب استعجال وزارة العمل، وديوان شؤون الخدمة، في إحالة من بلغوا سن ال( 65) للمعاش، دون مُراعاة لظرف الحرب، ودونما التزام بدفع معاشاتهم…. واعتبر الاقتصادي كمال كرار، الحرمان من المعاش، جريمة لا تغتفر، سيما أنّ معظم المعاشيين، هم كبار في السن، ومرضي، وغير قادرين على العمل.
*الصورة من الإنترنيت




