الفاشر وهدنة السبعة أيام.. ضرورة تحت قصف مستمر
الحصار المفروض على مدينة الفاشر يرقى إلى جريمة حرب …القادة الميدانيون يتحملون المسؤولية القانونية عن الجرائم التي يرتكبها الجنود التابعون لهم.
كتب: محمـد عبد الحفيظ – خاص (سودانس ريبورترس) …2 يوليو 2025
في مدينة الفاشر المنكوبة، يصارع آلاف المدنيين للبقاء على قيد الحياة وسط حصار خانق، وانعدام الدواء، وندرة الغذاء. مع اشتداد القصف واتساع رقعة النزوح، تتعالى الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار، لكن على الأرض، لا تزال المساعدات محاصَرة، والممرات مغلقة، والأمل في هدنة يتآكل سريعاً. ومع كل يوم يمر، تزداد الحاجة إلى هدنة، لا من أجل السياسة، بل لأجل البقاء.
وفي السابع والعشرين من الشهر الماضي (يونيو2025)، قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش إنه يجري اتصالات مع الأطراف المتحاربة في السودان بغية تأمين هدنة إنسانية تُمكّن من معالجة الوضع المأساوي في مدينة الفاشر، بولاية شمال دارفور، غربي البلاد.
وفي اليوم نفسه قال القائد العام للجيش السوداني، إنه أجرى مكالمة هاتفية مع الأمين العام وأنه ووافق على اقتراح منه بشأن وقف إطلاق نار لمدة أسبوع في الفاشر.
الأمين العام أكد ضرورة تأمين هدنة لتوزيع المساعدات يُتفق عليها مسبقاً بهدف “إعداد عملية توصيل ضخمة للمساعدات” في منطقة الفاشر.
في وقت رفضت فيه قوات الدعم السريع الهدنة الإنسانية التي طرحتها الأمم المتحدة، استمرت ضربات المدفعية والقصف المكثف على مدينة الفاشر المحاصرة، مما يعزز من مأساوية الوضع، ويجعل أي فرص للسلام مُؤجّلة تحت وطأة المواجهات.
وبينما لم تُستكمل بعد الترتيبات الفنية للهدنة، التي يُفترض أن تشمل وقفًا شاملاً لإطلاق النار والتحركات العسكرية، وإتاحة الفرصة لدخول المساعدات عبر ممرات آمنة قيد التنسيق، رحّبت قوى سياسية ومجتمعية بالمقترح، باعتباره فرصة لالتقاط الأنفاس.
ورحب حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، بمقترح الهدنة بهدف تسهيل إدخال المواد الإغاثية للمدنيين المحاصرين.
كذلك أبدى التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة «صمود» ترحيبه بمبادرة الأمين العام للأمم المتحدة لإعلان الهدنة والتي أعلن قائد القوات المسلحة الموافقة عليها، معتبرا ذلك خطوة مهمة.
ودعا قوات الدعم السريع إلى اتخاذ المنحى ذاته، لتمكين المنظمات الإنسانية من توصيل الإغاثة لمستحقيها في الفاشر.
وإلى جانب عدد من القوى السياسية والمجتمعية التي أبدت ترحيبها بالمبادرة الأممية، أصدرت نقابة الصحفيين السودانيين بياناً أيّدت فيه الهدنة، معتبرة إياها فرصة لإنقاذ المدنيين. وأشادت بموافقة الجيش، داعية قوات الدعم السريع إلى الاستجابة، كما ناشدت الأمم المتحدة تسريع إيصال المساعدات الإنسانية دون عوائق.
وتأتي هذه التطورات في ظل الحرب المندلعة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل 2023، والتي امتدت إلى مختلف أنحاء البلاد، بما فيها إقليم دارفور.
وتحاصر قوات الدعم السريع مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، منذ مايو 2024، وتشن هجمات متكررة في محاولة للسيطرة عليها، رغم أن عدد سكانها يقدّر بنحو مليون نسمة.
هدنة ضرورية
قال مصدر إنساني يعمل داخل مدينة الفاشر، إن الوضع الإنساني هناك بات “كارثياً”، موضحاً أن أغلب الأدوية أصبحت شبه معدومة أو منعدمة تماماً، وحتى تلك القليلة المتوفرة في السوق يصعب على المرضى شراؤها، بسبب أسعارها المرتفعة وانعدام السيولة.
وأشار المصدر الذي طلب من (سودانس ريبورترس) حجب إسمه، إلى أن المنظمات الإنسانية تغطي جزءاً كبيراً من حاجة السكان للمياه، لكن، تظل تكلفة المياه مرتفعة على المواطنين، في ظل عجز معظمهم عن الشراء، مضيفاً أن الغذاء المتاح حالياً يقتصر على “العدسية”، و”الماريق”، والدخن، بينما تقل نسبة توفّر المواد الأخرى مثل العدس والأرز، وإن وُجدت تكون بأسعار باهظة.
وذكر المصدر أن أبرز التحديات التي تواجه فرق الإغاثة تتمثل في صعوبة الوصول إلى مراكز العمل بسبب انعدام الوقود، إلى جانب نقص التمويل، وعدم كفاية المنح لتغطية الحاجات الفعلية للمحتاجين.
وأضاف: “نعم، هناك حالات وفاة بسبب نقص الدواء، خاصةً بعد إجراء العمليات، كما أن نقص الغذاء يُفاقم الأوضاع، رغم أن التوثيق لا يزال محدوداً في هذه النقطة حتى الآن.”
وأكد أن بعض المرافق الصحية ما زالت عاملة، لكنها تعاني من نقص حاد في معينات العمل، مما يهدد استمرارية قدرتها على تقديم الخدمات.
وأوضح أن المساعدات الوحيدة المتوفرة داخل المدينة تأتي من السوق المحلي، في حين فشلت كل المحاولات لإيصال المساعدات من خارج الفاشر، بسبب منع قوات الدعم السريع لذلك. وأشار إلى أن المساعدات الأخيرة التي حاولت الدخول تمت مصادرتها وحرقها في محلية “الكومة”.
ولفت النظر إلى أن النساء والأطفال يعيشون أوضاعاً مأساوية نتيجة العجز عن تحمل الضغط النفسي، والرعب اليومي الناتج عن القصف والاستهداف المتكرر لمراكز الإيواء، والأسواق، ومناطق تجمع المدنيين.
وقال المصدر أن هناك انتهاكات موثقة من قرى حول الفاشر، اجتاحتها قوات الدعم السريع، بينما لم تتوفر حتى الآن بيانات دقيقة عن الانتهاكات داخل المدينة نفسها.
وأشار إلى أن مدينة الفاشر “محاصرة بالكامل”، ولا تصلها أي إغاثة بتاتاً، مؤكداً أن هذه الوضعية تزيد من تعقيد الأزمة.
واعتبر أن أي إعلان لهدنة سيكون “فاتحة خير”، إذا ما تم الالتزام به، لأنه سيسهّل حركة المنظمات لتقديم المساعدات بحسب المتاح، خصوصاً في ما يتعلّق بتوفير الاحتياجات الأساسية من الغذاء والدواء ومواد الإيواء، استعداداً لفصل الخريف.
لكنه أبدى تشكيكاً في وجود أي ضمانات حقيقية لتأمين الممرات الإنسانية، قائلاً: “لا توجد ضمانات، بحسب ما نراه من تصاعد الأحداث.”
وأوضح أن حركة النزوح لا تزال مستمرة، نتيجة صعوبة الحياة داخل المدينة وندرة الغذاء، مبيناً أن السكان لا ينزحون بشكل جماعي حتى الآن، لكن “الخروج من المدينة” لا يزال ممكناً.
وأكد المصدر وجود تنسيق جيّد بين المنظمات الإنسانية والأطراف المسلحة داخل المدينة، دون عراقيل واضحة تُعيق العمل، مشيراً إلى تلقي بعض الدعم من وكالات مثل اليونيسف والاتحاد الأوروبي، وغيرها من الشركاء الدوليين.
قواعد الحرب
وقال عبد الباسط الحاج، وهو مُدافع حقوقي متخصص في قضايا العدالة الدولية والعدالة الانتقالية، إن مدينة الفاشر تُعدّ منطقة نزاع مسلح غير دولي، بالنظر إلى تعريف هذا النوع من النزاعات باعتباره صراعاً مسلحاً يقع داخل حدود الدولة، سواء بين القوات النظامية ومجموعة متمردة، أو بين جماعتين مسلّحتين غير رسميتين.
وأوضح أن القانون الدولي الإنساني يُلزم أطراف النزاع المسلح غير الدولي باحترام قواعد الحرب، ويحظر بشكل صارم الهجمات العشوائية على المدنيين، أو الاعتداء عليهم عمداً، كما يمنع القصف العشوائي، وفرض الحصار والتجويع على السكان. ويشدد القانون الدولي على ضرورة التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين، مشيراً إلى أن هذه القواعد تنطبق بوضوح على حالة الفاشر، إلى جانب حماية المقاتلين السابقين الذين ألقوا السلاح، وتخلوا عن القتال.
وأضاف أن الحصار المفروض على مدينة الفاشر يرقى إلى جريمة حرب، نظراً لوجود مدنيين داخل المدينة، بحاجة ماسة إلى الغذاء والدواء، في وقت تواصل فيه قوات الدعم السريع الاعتداء على المدنيين الفارين نحو مناطق أكثر أماناً، وهو ما يخالف قواعد الحرب ويُصنّف كجريمة حرب. كما أن منع دخول الإغاثة يُعد أيضاً انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، ويرتقي إلى جريمة حرب.
ونوّه إلى أن الاستهداف المتعمد للمرافق المدنية، طالما احتفظت بصفاتها المدنية، مثل المستشفيات، والعيادات، والمدارس، ودور العبادة، والأسواق، والمؤسسات الخدمية الأخرى، يُصنّف أيضاً ضمن جرائم الحرب.
وفي ما يتعلق بالهدنة، قال عبدالباسط الحاج لـ(سودانس ريبورترس) إن الهدنة تقوم على توافق الأطراف المتحاربة بشأن بدايتها ونهايتها، وقد تكون بمبادرة من طرف واحد أو عبر وساطة، ولا يُشترط “التوقيع” ما دام الإعلان تم رسمياً وعلنياً عبر القنوات الرسمية للطرفين. وتخضع مخالفة الهدنة لنفس قواعد خرق قوانين الحرب.
وأكد أن القادة الميدانيين يتحملون المسؤولية القانونية عن الجرائم التي يرتكبها الجنود التابعون لهم، كما تُحمَّل القيادات العليا المسؤولية عن الجرائم الكبرى في حال وجود تخطيط وسياسة إجرامية متفق عليها.
وقال إن الجرحى والمرضى مشمولون بالحماية بموجب القانون الدولي الإنساني، وأي اعتداء عليهم أو قتلهم يُعدّ جريمة حرب.
وأشار إلى أن الهدنة الإنسانية تهدف عادةً إلى إدخال المساعدات أو إجلاء المدنيين أو الأشخاص المحميين، بينما وقف إطلاق النار غالباً ما يُستخدم لأغراض سياسية كالدخول في مفاوضات أو ترتيبات لإنهاء النزاع.
وأضاف أن التهجير القسري للسكان يُعتبر جريمة حرب، وقد يُصنف أيضاً كجريمة ضد الإنسانية في بعض الحالات، كما حدث في مدينة الجنينة عام 2023، حين قامت قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها بتهجير جماعي لمكون المساليت من المدينة، وقتل الآلاف منهم، واغتصاب العديد من النساء والفتيات، وهي جرائم مُركّبة ترقى لأن تكون جريمة إبادة جماعية.
ولفت إلى أن المنظمات الإنسانية تملك الحق في التدخل، ولكن يجب عليها التنسيق مع أطراف النزاع لتجنب الهجمات أو أي مخاطر محتملة.
من جهته، قال شهاب الدين الطيب، الناطق الرسمي باسم التحالف الوطني السوداني، إن دعوة الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار في الفاشر جاءت في توقيت وصفه بـ”الميت سياسياً”، حيث أغلقت جميع الأطراف فرص إنهاء الصراع، في ظل تصاعد المعارك داخل المدينة.
وأضاف أن الدعوة الأممية لا تحمل أي أهمية فعلية، واعتبرها مجرد محاولة لكسب الوقت، في وقت تسعى فيه الحكومة في بورتسودان – بحسب تعبيره – إلى الوصول لتفاهمات مع الحركات المتحالفة معها، تمهيداً لتشكيل “سلطة أمر واقع” واستعادة موقفها القتالي في الفاشر.
هدنة بأدوات فاعلة
وأوضح الطيب أن تجارب الهدن الإنسانية السابقة، أثبتت فشلها جميعاً، مضيفاً أن “أي هدنة لا تأتي نتيجة ضغوط حقيقية، أو تفاوض يفضي إلى آليات مراقبة إقليمية أو دولية، فهي محكومة بالفشل”. وأكد أنه لا يعتقد أن هدنة الأيام السبعة المقترحة ستنجح في ظل الظروف الحالية.
وشدد على أن المقترح الأممي لن تكون له نتائج مباشرة على الأرض، لا سياسياً ولا إنسانياً، ما لم يترافق مع أدوات فاعلة لتنفيذه.
وأبدى الطيب شكوكاً في فعالية تحركات الأمم المتحدة، معتبراً أنها تعكس موقفاً منحازاً من خلال ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، الذي – على حد قوله – يتبنى مواقف أحد أطراف الحرب.
وحول الأثر المتوقع للهدنة على مواقف الأطراف، قال الطيب: “لا يوجد أي تأثير يُذكر؛ فكما نرى، قوات الدعم السريع أعلنت أنها غير معنية بهذه الهدنة، وواصلت تقدمها العسكري داخل الفاشر.”
في ظل انعدام الضمانات، وتعقيدات الميدان، تبقى “هدنة الفاشر” اختباراً قاسياً لإرادة المجتمع الدولي، وفرصة أخيرة تلتقط فيه المدينة أنفاسها تحت وابل القصف، ويبقى الرهان الوحيد الآن: أن تصمت البنادق، ولو مؤقتاً.
*الصورة المصاحبة من الإنترنيت