السودان بلا صحف… وسماء بلا صوت للضحايا!!
الكلمة تحت القصف: الإعلام في زمن الحرب… من يُنقذ الإعلام في السودان قبل أن يُدفن بالكامل تحت أنقاض الحرب؟
كتب: حسين سعد – خاص (سودانس ريبورترس) … 2 يوليو 2025
في وطنٍ أنهكته الحرب، تُطفأ الأصوات كما تُطفأ الأنوار، وتُطفأ شمعات تنوير الحبر قبل أن يجفّ… لم يكن الصحفيون والصحفيات السودانيون على هامش الحدث، بل كانوا – وظلُّوا – دوماً في صُلب ضوء الحقيقة، يسيرون نحو الخطر، فقط، ليكتبوا للعالم ما يحدث… وبعد أكثر من عامين من الحرب المدمرة، أصبحت الحقيقة بلا حُرّاس، وأصبح الإعلام السوداني خرائب، وأحلام الصحفيين أطلالاً.
لم تترك الحرب في السودان جُرحاً دون أن تعمقه، تشريد جماعي، وفصل تعسفي، وإنهيار مؤسسات إعلامية… صحفيات فقدن مكاتبهن، رواتبهن، وأمانهن المهني، وأخرون وأُخريات أجبرتهم الحرب للفرار من مدنهم وبلادهم، تاركين خلفهم دفاترهم وأصواتهم… بعضهم يعمل – الآن – مزارعاً أو سائقاً، أو بلا عمل، يتتبع أخبار وطنه من بعيد.
مئات المؤسسات الإعلامية أغلقت أبوابها أو نُهبت، وعشرات الصحفيين تم تهديدهم، أو إختطافهم، أو نُفوا قسراً… لم يكن ذلك هجوماً على مهنتهم، فحسب، بل هجوماً على الحقيقة ذاتها، فالصحافة السودانية، التي لطالما قاومت القمع في كل العصور، وجدت نفسها هذه المرة أمام جدار من الرصاص والخذلان، لا يُكسر بسهولة.
تهمة القلم:
لم يكن الإعلام مجرد شاهد على المأساة، بل أصبح أحد ضحاياها المباشرين، تحوّلت الكاميرا من أداة لنقل الحقيقة إلى هدف للقنص، وأُغلقت الميكروفونات بقوة السلاح، وتحوّل القلم إلى تهمة، بل، جريمة، قد تودّي بصاحبها إلى القتل أو السجن أو المنفى… لقد دخل الإعلام السوداني زمن الحرب مكشوف الظهر، محاصراً، مكمماً، بلا حماية ولا غطاء.
وفي الخرطوم، ومدن سودانية أخرى، دُمرت مقرات المؤسسات الإعلامية، ونُهبت مكاتب صحف عريقة، وتحوّلت مطابعها إلى أطلال، توقفت عشرات الصحف الورقية، عن الصدور، بعضها أُجبر على الإغلاق قسراً، لم تعد هناك حرية، ولا مساحات للحقيقة، صارت كل كلمة تُحسب، وكل صورة تُراقب، وكل صوت مستقل يُسكت، قتل أكثر من (27) صحفي وصحفية، وتعرض آخرون للإعتقال والإخفاء القسري، فقط لأنهم نقلوا الحقيقة… من نجا منهم، وجد نفسه مفصولاً أو مطارداً أو نازحاً داخل وطنه، أو فارّاً بجلده، دون أي حماية قانونية، ودون تضامن كافٍ من العديد من المؤسسات الدولية، وبحسب تقارير المنظمات الحقوقية أن مئات الصحفيين السودانيين فقدوا وظائفهم أو تم تهديدهم، وأن البيئة الإعلامية أصبحت واحدة من أخطر بيئات العمل في أفريقيا، إن لم تكن في العالم أجمع… لم يعد من السهل أن تكون صحفياً في السودان، لأن الحقيقة نفسها أصبحت هدفاً في مرمى النيران، في وطن تغرق فيه الحقيقة تحت ركام المعارك، وتُختطف فيه الكلمة من بين السطور، يصبح الإعلام خط الدفاع الأخير عن الذاكرة، عن العدالة، وعن الوطن الذي ينزف في صمت، والسؤال الحارق الآن: من يُنقذ الإعلام في السودان قبل أن يُدفن بالكامل تحت أنقاض الحرب؟
أزمات معقدة:
ويقول الصحفي نصر الدين عبد القادر في حديثه مع ( سودانس ريبورتس) إن الإعلام السوداني في زمن الحرب يعيش أزمات معقدة، أفقدته مهنيته بصورة مرعبة، فالصحافة السودانية التي تجاوز عمرها قرناً من الزمان أصبحت بلا هوية، وأصبح الصحفيون بسبب التشرد والنزوع والعجز، والتخوين يهربون من حبر المطابع وديسكات الأخبار، والتقارير التي كانت تعتبر وثائق تاريخية، مما خلف فراغاً عريضاً إستغله أصحاب وصاحبات المصالح الشخصية في تحقيقها عبر بيع أقلامهم لطرفي الحرب، فضللوا الجماهير الذين تاهوا بين سيل المعلومات المضللة، ومن ناحية أخرى فإن ما يعانيه الصحفيون والصحفيات السودانيات من عجز بسبب الحرب وويلاتها، امتهن صحفيون كباراً مهناً أخرى مثل بيع الخضار على قارعة الطريق مثل زميلنا الصحفي محمد غلامابي، ومنهم من إشتغل في بيع الملابس، ومنهم من إمتهن السقاية على عربة “كارو” يقوده حمار، مثل زميلنا الصحفي خالد ماسا، وفي المقابل ومع تطور الذكاء الاصطناعي تسلق المهنة نشطاء لا علاقة لهم بأخلاقيات الصحافة، وآدابها وصاروا رموزاً يشكلون الرأي العام… ومن جهتها أشارت الصحفية هيام تاج السر في حديثها مع (سودانس ريبورتس) إلي تدمير (90%) من المؤسسات الصحفية، وتشريد الاعلاميين والإعلاميات بين (نازحٍ ولاجئ) في ظل ظروف إقتصادية صعبة، وتمدد لإنتشار خطاب الكراهية والعنصرية.
.قيود تعسفية:
وفي دراسة لنقابة الصحفيين بعنوان (الإعلام السوداني في زمن الحرب :الواقع والافاق نحو إعادة البناء والإعمار) تم تقديم الدراسة في الذكري الأولي للصحفي الراحل عميد الصحفيين محجوب محمد صالح في مايو الماضي، أكدت الدراسة توقف الطباعة منذ أبريل 2023م، لأول مرة منذ عقود كما تحولت بعض مباني المؤسسات الصحفية والاعلامية إلي ثكنات عسكرية او مراكز دعائية لطرفي الحرب، وأكدت الدراسة خروج أكثر من (90%) من المؤسسات الاعلامية عن الخدمة وتهجير للصحفيين والصحفيات وفقدانهم لمصدر رزقهم، ولجوء مايزيد من (500) صحفي وصحفية خارج السودان يعيشون في ظروف لايمكن وصفها من فرط القسوة، كما يعمل الصحفيون المتبقون في السودان في ظروف أمنية مضطربة، ويواجهون مخاطر يومية الكثير منهم يعملون سراً وبدون أيّ موارد بحسب مسح أجرته نقابة الصحفيين، كما إستغلت حكومة الأمر الواقع فى بورتسودان، حالة الطوارئ بفرض قيود تعسفية إضافية، على الصحافة والصحفيين والصحفيات، وواصلت في إستخدام قوانين سالبة للحريات مثل قانون أمن الدولة، وقانون جرائم المعلوماتية ، كما تم إستخدام منصات إعلامية – من طرفي الحرب – في التحشيد والدعاية الحربية، بدلا من نقل الحقيقة وتفشي خطاب الكراهية والمحتوي القبلي، وأوصت الدراسة علي ضرورة سن قانون جديد للإعلام يضمن الحريات، ويمنع الرقابة والعقوبات السالبة بحق الصحفيين والصحفيات من العقوبات الجنائية علي النشر، ويعزز إستقلالية المؤسسات الإعلامية، وطالبت الورقة بإنشاء صندوق يدعم الإعلام مابعد الحرب، وإعادة الإعمار المؤسسي والبنية التحتية، وإدماج الإعلام في جهود السلام وإطلاق حملة إعلامية تسهم في وقف خطاب الكراهية، وبناء الثقة بين المكونات المجتمعية، وإبراز قصص النجاح في التعايش والعدالة الإنتقالية ودمج الإعلام ضمن جهود العدالة الإنتقالية، وبناء السلام، بوصفه فاعلاً رئيسياً في توثيق الحقيقة وتحقيق المصالحة.
في وطن دمرت فيه الحرب كل شئ، ما زال هناك من يحمل القلم والكاميرا، الحرب لم تقتل الجنود فقط، بل قتلت الكلمة، وشردت الصحفيين والصحفيات، وكممت الصوت الذي كان يصارع كي يقول (هذا ما يحدث)، لكن، رغم كل شيء، لم يمت الإعلام تماماً، ففي قلب الخوف، لا تزال هناك “مدوّنات”، ومواقع تكتب، وصحفيون يعملون في الظل، كي لا تموت الحقيقة… الصحافة في السودان اليوم لا تملك جدراناً تحميها، لكنها تملك ضميراً يرفض الصمت… قد يُهدم المقر، وقد يُغتال الصحفي، لكن، الكلمة إذا وُلدت حرة، فإنها لا ولن تموت بسهولة… غياب الإعلام ليس مجرد فراغ مهني، بل هو مساحة قاتلة من الصمت… في ظل غياب الصحفيين والصحفيات، يصعُب التوثيق للجرائم، ولا يتم كشف وفضح للانتهاكات، ولا يُسمع صوت الحقيقة، حين تُرتكب المجازر في الظلام.
لقد بات المدنيون في السودان اليوم مكشوفين أمام العنف، لا لأنهم لا يصرخون، بل لأن لا أحد ينقل صراخهم، إن غياب الكلمة، أفسح الطريق أمام البنادق، وإن إسكات الصحافة لم يحمِ أحداً، بل جعل الجريمة أسهل، والقاتل أكثر جُرأة، لذلك، فإن إنقاذ الإعلام في السودان، لا يعني فقط إنقاذ مهنة، بل يعني إعادة بناء خط الدفاع الأول عن المجتمع، عن الحقيقة، وعن الحياة… فليكن واضحاً: لا سلام بلا صوت، ولا عدالة دون حكاية تُروى، ولا مستقبل لوطنٍ تُخرس فيه الأقلام وتُحاصر فيه الكلمة.
*الصورة من الإنترنيت