السودانتقاريرتقاريرصحافة حقوق الانسان

المفقودون… المأساة المنسية في حرب السودان

"سنعود إلى البيت، يوماً ما" ... ولنبقِ الأمل حيّاً ... ونرفع صوتنا عالياً، من أجل كل طفل وطفلة

 

المفقودون… المأساة المنسية في حرب السودان

 

“سنعود إلى البيت، يوماً ما” … ولنبقِ الأمل حيّاً … ونرفع صوتنا عالياً، من أجل كل طفل وطفلة

 

 تقرير: حسيبة سليمان    (خاص- سودانس ريبورترس)     30 أبريل  2025

 

وسط ركام الحرب المتواصلة في السودان، وتحت غبار الدمار الكثيف الذي غطى سماء المدن، وأغرق أُفقها، في عتمة لا تنقشع، تتسلل مأساة إنسانية صامتة لا تحظى بكثير من الأضواء… إنها مأساة المفقودين، أولئك الذين ابتلعتهم دوّامات الصراع، وغابت ملامحهم في زحمة النيران دون أثر أو خبر، تاركين خلفهم قلوباً لا تهدأ، وأسئلةً لا تجد طريقاً إلى الجواب.

المفقودون في السودان ليسوا مجرد أرقام جامدة في تقارير حقوقية، أو صوراً باهتة في نشرات الأخبار. إنهم بشر، لهم وجوه وأسماء، روابط وعائلات، أحلام وأمنيات، توقّفت عند لحظة اختفاء غامضة، تاركة أهاليهم في قبضة الانتظار القاسي، بين رجاءٍ لا ينطفئ، وخوف لا يهدأ.

فاطمة ومحمد قصة تُروى بالدموع

قصة فاطمة ومحمد، على سبيل المثال، تُجسّد حجم هذه المأساة المتكررة. ففي مايو الماضي، خرجت الشابة فاطمة بابكر من منزلها في أمبدة، بأم درمان، متجهة إلى الحارة 14، ومنذ ذلك اليوم لم يُعثر لها على أثر. مأساة عائلتها تضاعفت، إذ إن شقيقها محمد كان قد اختفى قبل عام في منطقة سوق ليبيا، التي شهدت واحدة من أعنف المواجهات في العاصمة.

رحيل الإبنة بعد الإبن، كان ضربة قاصمة، وطعنة نجلاء، لعائلة بابكر إدريس، المحامي، الذي لم يحتمل وقع الفقد، فرحل متأثراً بالحزن. واليوم، تعيش الأسرة تحت ظلال الغياب، معلّقة بأمل ضعيف في أن تصلها أي معلومة تنهي حالة الترقب الطويلة.

نداءات الأسرة، التي ملأت منصات التواصل الاجتماعي، لاقت صدىً واسعاً بين مستخدمي الإنترنت، وكتب أحدهم تعليقا اطلعت عليه (سودانس ريبورترس): “إذا كنت تعرف شيئاً، لا تحتفظ به… الحرب لم تأخذ الأرواح فقط، بل شتّتت العائلات وسرقت الطمأنينة”.

مرتضى رجل انهكته المآسي

مرتضى، رجل أنهكته المآسي، ما زال يبحث عن ابنته المفقودة منذ أكثر من عام، فيما لا تزال جراحه مفتوحة، بعد مقتل إبنه أمام ناظِريه جراء سقوط قذيفة… اليوم، يحتضن أصغر أطفاله، ويهمس له بعبارات الرجاء: “سنعود إلى البيت يوماً ما”.

على منصة اليونيسف في السودان، شارك مرتضى حكايته التي تُدمي القلوب، قائلاً: “كنت بجهز الأكل لأولادي، وأرسلت ابني الكبير ليجلب الخبز. ما أن خرج من الباب حتى سقطت دانة، وأصابته شظاياها القاتلة”. والدته لم تحتمل الصدمة… أن ترى إبنها يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام عينيها، كان ذلك فوق طاقتها واحتمالها، فقلوب الأمهات، لا تحتمل مثل هذه الفواجع.

وعن ابنته المفقودة، قال مرتضى، بكلمات تقطر ألماً: بنتي خرجت مع خالتها أثناء القصف، وسط حالة الهلع والركض. ومنذ ذلك اليوم لا أعلم عنها شيئاً. سألت عنها في كل مكان، لم أترك سائقاً أو مسافراً أعرفه، إلا وسألته عنها… أنا سائق، ومنذ سنة وثلاثة شهور وأنا أفتش عنها، بلا كلل ولا ملل.

في وجه الألم، يصر مرتضى على التمسك بالأمل. قصته واحدة من آلاف الحكايات التي تُجسد معاناة العائلات السودانية في ظل الحرب. فلنُبقِ الأمل حيّاً، ولنرفع صوتنا من أجل كل طفل.

أرقام مفزعة ومعاناة متصاعدة

وتشير آخر التقارير الصادرة عن “المجموعة السودانية لضحايا الاختفاء القسري”، إلى توثيق أكثر من 1140 حالة اختفاء خلال عام من اندلاع الحرب، بينها 149 إمرأة، فيما شكّل الرجال النسبة الأكبر من الضحايا، مع تصدُّر مدينة أم درمان للمشهد من حيث عدد الحالات.

يقول عثمان البصري الصادق، عضو المجموعة، في حديث لـ(سودانس ريبورترس)، إن الفئة العمرية الأكثر تضرراً من هذه الظاهرة تقع بين 20 و35 عاماً، مما يشير إلى خسارة فادحة تطال فئة الشباب في المجتمع.

ويضيف البصري أن العديد من المفقودين جرى احتجازهم في أماكن غير رسمية حوّلتها الميليشيات إلى مقار اعتقال داخل الأحياء السكنية… روايات الناجين والناجيات من تلك المواقع كشفت عن انتهاكات مروعة، شملت التعذيب، والإجبار على العمل القسري، وحرمان المعتقلين من الغذاء والرعاية الطبية، ما تسبب في وفاة بعضهم، خصوصاً وسط غياب أي شكل من أشكال الرعاية الصحية.

وتحدث البصري أيضاً عن وجود مقابر جماعية في مناطق متفرقة من العاصمة، خاصة بالقرب من سجن سوبا، حيث دُفن عدد من الذين قضوا حتفهم داخل المعتقلات. كما أشار إلى ترحيل بعض المعتقلين إلى مناطق بعيدة مثل دارفور، في محاولة لإخفاء معالم الانتهاكات، قبيل سيطرة الجيش على أجزاء من الخرطوم.

تحديات وعجز دولي

ورغم الجهود المحلية لتوثيق هذه الحالات، إلا أن ظروف الحرب، وانقطاع الاتصالات، وصعوبة الوصول إلى مناطق النزاع في دارفور وكردفان، تجعل من مهمة التوثيق شبه مستحيلة. ويؤكد البصري أن غياب مؤسسات الدولة، وضعف التمويل، وفقدان الدعم اللوجستي، كلها عوامل تعرقل عمل المنظمات الناشطة في هذا المجال.

وفي هذا السياق، ينتقد البصري ضعف الدور الدولي، قائلاً غالبية المنظمات الكبرى، تكتفي بالورش والبيانات، دون تقديم دعم ميداني فعلي. حتى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ورغم مكانتها، لا تزال تفتقر إلى الحضور المؤثر على الأرض.

جرح مفتوح

تبقى قضية المفقودين في السودان واحدة من أكثر القضايا إيلاماً، إذ تختصر مزيجاً قاتماً من المعاناة الإنسانية، وانهيار المؤسسات، وصمت العالم… هي مأساة تبحث عن ضوء، فى نفق الكتمان، وعائلات تتعلق بخيط من الرجاء، في انتظار نهاية تضع حداً لرحلة الغياب والعذاب الطويل… أو على الأقل، تمنح الوداع الأخير.

توثيق الاختفاء القسري.. خبير أممي يوضح

في حين أكد الخبير الأممي، رضوان نويصر في مقابلة نشرها موقع الأمم المتحدة، أن الاختفاء القسري وفقدان الأشخاص مشكلة موجودة في السودان، مضيفاً أن هذه ليست الانتهاكات الوحيدة التي خلفتها الحرب. ونوّه نويصر إلى التدمير الذي طال المناطق السكنية، وانتهاك الحقوق، وطرد المدنيين من منازلهم، والاغتصاب الجنسي، علاوة على التجنيد القسري للشباب، من قِبل طرفي النزاع…كما أعرب عن أسفه إزاء عدم إيلاء الأطراف المعنية، أهمية كبيرة للمسائل المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان.

وفيما يتعلق بالتحديات التي تواجه توثيق حالات الاختفاء القسري، لفت البصري إلى مشاكل في إمكانيات الاتصال، والوضع الأمني في مناطق النزاع، وتردُّد العائلات في الإبلاغ، وضعف القضاء والأمن.

إلى ذلك، أوضح البصري أن معظم الحالات المسجّلة تتركز في مناطق النزاع مثل الخرطوم وسنار والفاشر والنيل الأبيض وولايات دارفور. وأضاف أن الأمم المتحدة تحاول تقديم المساعدة القانونية للعائلات لتقديم الشكاوى والمطالبة بالتحقيق، لكنه أكد ثانية أن قضايا حقوق الإنسان لا تبدو أولوية لدى أطراف النزاع.

ومنذ أبريل  2023، يخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، صراعاً دامياً، أسفر وفقاً للأمم المتحدة والسلطات المحلية، ونتج عن هذا الصراع المسلّح، مقتل أكثر من 20 ألف شخص، ونزوح ولجوء حوالي 15 مليونا آخرين… والمحزن أكثر، والمخيف، أنّ الحرب الكارثية، قد دخلت موجةً جديدة، بل، مرحلة جديدة، من العنف واستهداف المدنيين والمدنيات، تتواصل فيها عذابات السودانيين والسودانيات، وتزداد فيها ومعها مأساة المفقودين والمفقودات، بوتيرة سريعة، فاقت كل التوقُّعات… تُرى متى تتوقّف هذه الحرب الكارثية، ومتى يعود المخفيون والمخفيات إلى احضان عائلاتهم وأسرهم التى أرهقها طول وألم الانتظار؟.

*الصورة من الإنترنيت 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى