الرأيالسودانراي ومشاركات

حروب مؤجلة: حرب 15 أبريل التي اشتعلت وتمددت، شكّلت هي في ذاتها حواضن لأزمات جديدة، وعمّقت أخرى قديمة

وسط هذه الدائرة الشريرة من الإفلات من العقاب، وغياب المساءلة، هل يمكن أن تحدث مصالحة حقيقية، وينتهي العنف في بلادنا؟؟!.

حروب مؤجلة: حرب 15 أبريل التي اشتعلت وتمددت، شكّلت هي في ذاتها حواضن لأزمات جديدة، وعمّقت أخرى قديمة

وسط هذه الدائرة الشريرة من الإفلات من العقاب، وغياب المساءلة، هل يمكن أن تحدث مصالحة حقيقية، وينتهي العنف في بلادنا؟؟!.

 

أمل محمد الحسن (خاص سودانس ريبورترس) – 13 أبريل 2025

أكملت حرب الـ15 من أبريل عامها الثاني مخلفة أكبر كارثة إنسانية يشهدها العالم في تاريخه الحديث، حيث يُعاني أكثر من نصف السكان (حوالي 25 مليون شخص) من نقص المواد الغذائية الأساسية، وانتشرت المجاعة فعليّاً في عدد من معسكرات النزوح، فيما مات عدد كبير من السودانيين، بسبب الجوع وفق العاملين في غُرف الطوارئ، بعضهم داخل العاصمة القومية الخرطوم.

 وخلال هذا الصراع الوحشي اضطر أكثر من 10 ملايين شخص لترك منازلهم والتوزع بين النزوح واللجوء، بموارد شحيحة وهموم متعاظمة، وهم ينظرون خلفهم للقتال المحتدم الذي لا يعلم أحد متى سيتوقف.

وبينما أحرز الجيش تقدما كبيرا داخل العاصمة الخرطوم بعد حصوله على طائرات حربية متطورة يرجح أنها من ماركة بيرقدار التركية إلى جانب أسطول من المسيرات؛ لا تزال قوات الدعم السريع تستهدف عبر المسيرات البنى التحتية، خاصة سد مروي، والمطارات في الولايات الشمالية، وفي ذات السياق، يتواصل استهدافها وإسقاطها لعدد من الطائرات وحرقها لطائرة سوخوي في منصتها، يشير إلى امتلاكها لسلاح متطور جديد، ما يعني أن الحرب حصلت على “وقود” جديد يسمح لها بالاستمرار ردحاً جديداً من الزمن، لا يعلم مداه إلا الله!

هذه الحرب التي تُجسّد كافة الاعتلالات التاريخية التي عانت منها البلاد منذ حصولها على استقلالها، واهمٌ من ظنّ أنها تُشارف على نهاياتها، فهذه الحرب التي اشتعلت وتمددت، شكّلت هي في ذاتها حواضن لأزمات جديدة، وعمّقت أخرى قديمة، وحال وضع الطرفين السلاح، ستكون تلك عملية لوضع الرماد على نيران متقدة كافية لإشعال عدد من الحروب المتواصلة، ما لم تتم معالجة كافة الأزمات التاريخية والحديثة وهو ما يبدو مستحيلاً مع غياب الإرادة السياسية للممسكين بدفة القيادة الحالية!

(1)

من أبرز الأزمات التاريخية التي زادت هذه الحرب أوارها؛ هي أمراض العنصرية والقبلية التي كانت تسقيها حكومة البشير، عبر زرع الفتن بين القبائل، خاصة في أقاليم كردفان، ودارفور، والنيل الأزرق، وتسليحها، من أجل محاربة بعضها البعض، للمحافظة عليها منشغلة ومنهكة وبعيدة، عن المطالبة بحقوقها في الثروة والسلطة والتنمية، وتلك الأزمات هي التي خلقت المليشيات القبلية الموازية للجيش، والتي من بينها الدعم السريع، الذي يقاتل – الآن – في من صنعه، بعد أن انقلب السحر على الساحر!

أما مناخ الحرب الحالية؛ فقد تفنن في تغذية تلك الأمراض التي ستمزق البلاد، وإنهاء الحرب لن يلغي ما امتلأت به الصدور، وتهتك النسيج الاجتماعي، خاصة بعد أن فعلت الأطراف المتحاربة الأفاعيل ضد من تصفه كل جهة بـ”حواضن” اجتماعية للعدو! … سرت دعوات الانفصال على منصات التواصل الاجتماعي بلا استحياء وبلا رقيب أو حسيب مترافقة مع لغة عنصرية بغيضة وجدت في أجواء الحرب متسعا للانتشار والتفشي وهو ما ينذر ببوادر حروب أخرى أشد ضراوة، حروب وجودية للبقاء، وإثبات الهوية، وهي تحول نعمة الثراء الاثني والقبلي المذهل في البلاد لنقمة مدمرة.

(2)

الذي ينظر إلى التدخلات الإقليمية والدولية؛ يكاد يرى في حرب السودان مسرحاً للعرائس!  تتحكم فيه قوى أخرى غير تلك التي في الميدان، تمسك بمفاتيح اللعبة والحرب، كما يمسك فنان بخيوط عرائس، ويحركها كيف يشاء!

الدعم العسكري واللوجستي الذي تقدمه دول جوار ودول إقليمية ودولية ليست عطايا تمنح من باب الكرم والتفضل، فالسلاح من أغلى الصناعات، والحروب تكاليفها باهظة، فما هو المقابل الذي يقدمه كل طرف لداعميه؟ هو سؤال تصعب الإجابة عنه وسط غبار المعركة، لكن بعد انجلائها سنجد أن الموارد التي فقدتها البلاد تقدر بمليارات الدولارات، ولا عزاء للأطفال الذين خرجوا من قاعات الدراسة، والذين سيتحولون في أغلب الظن لوقود جديد لدوائر العنف هذه.

وليس ببعيد ما قاله وزير المالية جبريل إبراهيم عن حصول دولة “جارة” على 48 طناً من الذهب خلال العام السابق، كما لا يمكن تجاهل ما جاء في تقرير (الواشنطن بوست) عن الوعود التي قدمها الجيش السوداني، لأنقرة مقابل الحصول على المسيرات المتطورة، وأهمها إدارة تركيا لميناء أبو عمامة.

ومن يدري؟ ما الذي تعود تلك الطائرات التي تهبط في مطار نيالا محملة به! ولا يخفى على أحد أن الذهب هو أكثر مورد، اُسْتُخْدِم في تمويل الحرب الحالية، فأصبح السودانيون يموتون بالذهب، الذي كان يجب أن يبني المستشفيات والطرق، وينقذ البلاد من دوامة الفقر والعوز.

هذه القوى الإقليمية والدولية والدول الجارة التي ساهمت في تمويل الحرب لن تقف متفرجة على مستقبل البلاد، كل دولة ستحمل أجندتها الخاصة بها والتي ستسعى لتنفيذها، لا أحد يقدم السلاح مجاناً ولا أحد يضع مصلحة بلاد فوق مصلحة بلاده! فوقف الحرب، ومستقبلنا القريب والبعيد أيضا مرهون بما هو مدون في تلك الأجندة!

في حقيقة الأمر هكذا تسير حقيقة العلاقات الدولية؛ تسيرها المصالح الذاتية، البراجماتية، ومنطق القوة الاقتصادية والعسكرية، لا يمكننا لوم أحد سوى أنفسنا، على ما وصلنا إليه من المواصلة في غرقنا في دوامة الحروب الأهلية، حتى أصبحنا أكثر دولة إفريقية تشهد حروبا داخلية، وهو السبب جعل العالم لا يلقِي بالاً لسوء أحوالنا، كأنهم يقولون: على نفسها جنت براقش!

(3)

يبدو الحديث عن البيئة من ترف القول وسط الصراع الوحشي الذي تعاني منه البلاد؛ لكنها ستكون سببا لحرب جديدة، حرب الموارد التي سيسهم الصراع الحالي في جعلها أكثر شحاً وندرةً وسط الزحف الصحراوي، والتقطيع الجائر للغابات والتهريب وسط فوضى القتال.

من جهة ثانية مخلفات الأسلحة؛ خاصة مع الاتهامات الأمريكية باستخدام الأسلحة الكيميائية، ستزيد الأزمات البيئية، إلى جانب الجثث التي تحللت بالأيام، والكلاب التي سعرت بسبب تناول اللحم الآدمي، والأوبئة التي تفشت، دون أن تجد كوابح أو أمصالاً تتصدى لها.

(4)

نظرة واحدة على القوات العسكرية الموجودة في المشهد الحربي الحالي، تكفي لمعرفة أي مستقبل ينتظر البلاد! الصراع الحالي القوى الرئيسة الفاعلة فيه هي الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع التي كونها بيديه لتقاتل حركات التمرد “وفق وجهة نظر المركز” في دارفور، ثم بعد انفجار حرب 15 أبريل 2023، برزت مليشيات مسلحة جديدة بعضها يحمل طابعاً إثنياً، وبعضها يحمل صفات وجينات أيدولوجية بتبعيته للتنظيم الإسلامي، وبعض حملة السلاح، يحملونه لرغبات ذاتية، وبعضهم يرون فيه الحامي لبقائهم، فيما لا يمكن إهمال المليشيات التي تُدَرَّب في بعض دول الجوار!.

الخلافات الصغيرة المتناثرة على الوسائط الاجتماعية بين الحركات المسلحة التي تحالفت مع الجيش وبين مكونات قبلية من جهة، وبين (كيكل) الذي انضم إلى الجيش، بعد قتاله مع الدعم السريع، وبين داعمي الجيش أنفسهم، ممن يطلق عليهم “اللايفاتية” تعطينا لمحة صغيرة عما يمكن أن يحمله المستقبل القريب بين مكونات جميعها تحمل السلاح، وتشعر بالأحقية والتضحية!.

في الجانب الآخر ننظر إلى المكونات المسلحة والسياسية التي كونت تحالف (تأسيس) إلى جانب قوات الدعم السريع، والتي من الواضح أن اتفاقها مبني على مصالح آنية، مع وجود خلافات جوهرية، أيدولوجية، وعسكرية، خاصة بين أكبر فصيلين مُقاتلين، الدعم السريع والحركة الشعبية لتحرير السودان “الحلو”، أعداء الأمس القريب، وشركاء اليوم!.

(5)

الدعم السريع وشركاؤه لـ”اليوم”، ومخطط تكوين حكومة موازية، لحكومة بورتسودان، هو مشروع تفتت الدولة السودانية، ربما لأكثر من دولتين!… بنظرة خاطفة لواقع دولة جنوب السودان، التي انفصلت قبل أكثر من عقد من الزمان، يتأكّد صعوبة تكوين دولة ناهضة، وهي تحمل في بذرة تكوينها كل تلك الأمراض من الدولة الأم!.

مخطط التقسيم الذي يُغَذَّى بالخطاب العنصري، ومستنقع خطاب الكراهية، سيسمح للحروب بالتوالد والتكاثر، خاصة مع وجود جيل ضائع خارج النظام التعليمي، والذي سيكون الوقود المجاني لهذه الحروب.المعادلة بسيطة؛ جهلٌ وسلاحٌ منتشر، وانفلات أمني، وانعدام الخدمات، ما هي إلّا دوامة صراعات لا تنتهي!.

(6)

قال لي أحد القيادات في الحركة الشعبية – “الأُم” – إن جميع تلك الانتهاكات التي شاهدها الشعب السوداني في حرب الخرطوم، حدثت في جنوب السودان، وأكثر منها! …قُتِل في حرب الجنوب حوالي 2 مليون شخص، وهي إحصائية ليست دقيقة، ربما يكون العدد الحقيقي أكثر من ذلك بكثير، وتُصنف تلك الحرب، على أنها احتلّلت موقع أنّها أكبر حصيلة قتلى، منذ الحرب العالمية الثانية!!.

شهدت حرب الجنوب، عُنف جنسي، وخطف أطفال، وتدمير قرى كاملة، وحدث ذات الشيء في دارفور، وجبال النوبة والنيل الأزرق، وتكررّت كل تلك الجرائم، جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، مرّات ومرّات، ولم يُقدّم أيّ شخص من مرتكبي تلك الجرائم الوحشية، للمحاكمة، سوى علي كوشيب الذي سلّم نفسه للمحمكة الجنائية الدولية، خوفاً على حياته، بعد التغيير، ثم أنكر – لاحقاً فى المحكمة – أنه “كوشيب”!.

ما زال المطلوبون كلّهم لدى الجنائية الدولية، في جرائم دارفور على رأسهم الرئيس المخلوع عمر البشير، ومعاونيه أحمد هارون، وعبد الرحيم محمد حسين، “طُلقاء” وموجودين، يعيشون في أمنٍ وأمان، لم يُقدّموا للمحاكمات، وللأسف، والأسى، لن يرى الضحايا الذين دُمِّرت حياتهم قبل عقدين من الزمان، أي عدالة، أو إنصاف، أو جبر ضرر!.

ذات الضحايا الذين سكنوا طوال حياتهم في المعسكرات، تعرضوا لانتهاكات جديدة، في حرب (البرهان – حميدتي)… تُرى، وسط هذه الدائرة الشِرِّيرة من الإفلات من العقاب، وغياب المساءلة، هل يمكن أن تحدث مصالحة حقيقية، وينتهي العنف في بلادنا؟؟!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى