أطباء وطبيبات السودان بين فكّي الحرب والاعتقال: أين المفر؟
انقطاع وسائل الاتصال وتدهور البنية التحتية يزيد من صعوبة الوصول إلى المعلومات اللازمة عن الحالات المرضية
حسيبة سليمان: (خاص – سودانس ريبورترس) – 13 أبريل 2025
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، أصبح القطاع الصحي واحداً من أبرز ضحايا هذا النزاع المدمّر، حيث لم ينجُ الأطباء والطبيبات والعاملون/ات في المجال الطبي من آلة العنف التي طالت الجميع. فقد كشفت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان في تقرير حديث، صدر بتاريخ 10 أبريل 2025، عن تعرض ما لا يقل عن 37 طبيباً وطبيبة للاعتقال، توزعت أماكن احتجازهم/ن بين معتقلات تابعة لقوات “الدعم السريع” ولجهاز الاستخبارات العسكرية، في انتهاك صارخ لمبدأ ضمان سلامة وحماية الكوادر الطبية الذي يضمنه القانون الدولي الإنساني.
وأشارت اللجنة إلى أن الرقم المعلن لا يعكس بالضرورة الحجم الكامل للانتهاكات، مُرجِّحةً أن يكون العدد الفعلي أكبر بكثير في ظل الظروف الأمنية الهشة، وصعوبة الوصول إلى معلومات دقيقة، حول أماكن وظروف الاحتجاز، خاصة في مناطق النزاع الساخنة.
اعتقالات تعسفية واستهداف متصاعد
توزعت حالات الاعتقال في عدة ولايات سودانية، طالت أطباء وطبيبات يعملون في بيئات إنسانية صعبة سواء داخل المستشفيات أو في مواقع الإسعاف الميداني. وأفادت النقابة أن 30 من هؤلاء الأطباء اعتقلتهم قوات الدعم السريع، فيما لا يزال سبعة آخرون محتجزين لدى أجهزة تابعة للجيش السوداني، والاستخبارات العسكرية.
ويرى مراقبون أن هذا الاستهداف المنهجي للكادر الطبي يثير تساؤلات جدية حول نوايا الأطراف المتصارعة، في وقت يشهد فيه القطاع الصحي انهياراً شبه كامل، وتفشّي الأوبئة، ونقصاً حاداً في الأدوية والمستلزمات الطبية، مما يزيد من حدة الكارثة الإنسانية.
ضحايا الواجب فى غياب الحماية
لم تقتصر الانتهاكات على حملات الاعتقال، بل امتدت لتطال أرواح العاملين والعاملات في القطاع الصحي. فقد وثّقت النقابة في نوفمبر الماضي (2024) مقتل 78 طبيباً وممارساً صحياً منذ بداية الحرب، في ظروف تراوحت بين القصف العشوائي، والاستهداف المباشر، والتعذيب، وصولاً إلى القتل أثناء تقديم العلاج في خطوط التماس أو داخل المستشفيات.
وتأتي هذه الأرقام المأساوية، في وقت تشير فيه تقديرات وزارة الصحة، إلى خسائر مالية تزيد عن 11 مليار دولار، فضلاً عن تدمير أو توقُّف 250 مستشفى من أصل 750 في البلاد، بالإضافة إلى تضرُّر أكثر من نصف مراكز غسيل الكلى، ما يعرض حياة آلاف المرضى للخطر المباشر.
كما ساهمت الأوضاع المأساوية واستهداف الأطباء والطبيبات والعاملون/ات في الحقل الصحي، وانعدام الأدوية والمستلزمات الطبية، في تفشي الأوبئة والأمراض الفتاكة، بشكل كبير في عدة ولايات، وتسببت تلك الأوبئة في مقتل وإصابة مئات الآلاف، بالتزامن مع موجات نزوح وتهجير قسري غير مسبوقة. وكان من أبرز تلك الأوبئة تفشي الكوليرا في ولاية النيل الأبيض في فبراير الماضي، بالإضافة إلى انتشار الملاريا في الخرطوم وجميع أقاليم السودان.
صعوبات وتحدّيات غير مسبوقة
في ظل الظروف الكارثية، يواجه الأطباء والعاملون في القطاع الصحي تحديات غير مسبوقة تعيق قدرتهم على تقديم الرعاية الصحية اللازمة للمواطنين. من أبرز الصعوبات التي يعانون منها:
التهديدات الأمنية حيث يتعرض الأطباء والطبيبات والعاملون/ات في القطاع الصحي لتهديدات مستمرة من جميع الأطراف المتحاربة، ما يجعل عملهم/ن في الخطوط الأمامية أكثر خطورة، حيث أصبح العديد منهم/ن أهدافاً للاعتقال أو الهجوم المباشر، في ظل تزايد الانتهاكات الجسيمة التي تتعرض لها الكوادر الصحية.
الضغط النفسي والجسدي، حيث يعمل الأطباء والطبيبات في ظروف استثنائية، لا تتوفر فيها لهم/ ن مستلزمات العمل الأساسية، مثل الأدوية والمعدات الطبية، كما أنهم/ن مضطرون/ ات للعمل لساعات طويلة، دون أخذ الراحة الكافية… إضافة إلى ذلك، تتزايد الضغوط النفسية بسبب ارتفاع عدد الحالات المرضية، نتيجة تفشي الأوبئة، وتزايُد حالات الإصابة بسبب القصف والمواجهات العسكرية.
نقص الإمدادات الطبية بسبب النزاع، أدّى لتوقُّف العديد من خطوط الإمداد الطبي، مما يضطر الأطباء للعمل بأدوات ومواد صحية محدودة للغاية، ما يعرض حياة المرضى للخطر… بالإضافة إلى نقص الأدوية الأساسية، مثل المضادات الحيوية والأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة، مما يزيد من تفشي الأمراض والأوبئة مثل الكوليرا والملاريا وحمى الضنك.
صعوبة التنقل والوصول إلى المناطق المتضررة، بسبب النزاع المسلّح، يزيد من معاناة الأطباء والطبيبات فى التنقل بين المناطق المتأثرة بالنزاع، ما يعيق وصولهم/ ن إلى المرضى، في الأماكن الأكثر حاجة. كما أن انقطاع وسائل الاتصال وتدهور البنية التحتية، يزيد من صعوبة الوصول إلى المعلومات اللازمة عن الحالات المرضية.
غياب الحماية القانونية إذ يواجه الأطباء والطبيبات خطر الاعتقال أو التعرض للاعتداءات دون أي حماية قانونية، ما يجعلهم/ ن يعملون في بيئة تفتقر إلى الأمان. وقد سجلت حالات اعتقال عديدة لبعض الأطباء على يد قوات الدعم السريع، أو الجيش السوداني، كما وثق بيان اللجنة التمهيدية الأخير، ما يشكل تهديداً مباشراً لسلامتهم/ن الشخصية.
نداء الأطباء في ظل غياب الحماية الدولية
من جانبها، قالت الدكتورة أديبة إبراهيم، عضو اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، إن الكوادر الطبية في السودان، تتعرض لانتهاكات مروعة في ظل الحرب الدائرة، وسط صمت دولي مخجل، وتجاهل تام للمبادئ الإنسانية، مؤكدة أن الأطباء والطبيبات باتوا هدفًا مباشرًا لكل أطراف النزاع، وتعرضوا خلال الأشهر الماضية للقتل والخطف والاغتصاب والتهديد، دون أي حماية قانونية أو دولية.
وندّدت الدكتورة أديبة إبراهيم بالمجزرة المروّعة التى وقعت يوم “أمس” السبت (12 أبريل 2025) في معسكر زمزم، بشمال دارفور، وراح ضحيتها كامل الطاقم الطبي بمستشفى “ريليف”، وعددهم 12 طبيباً وممرضاً، أُعدم بعضهم بالرصاص الحي، وبدم بارد، على يد عناصر من “مليشيا الدعم السريع”، بحسب وصفها. وأضافت أن هذه الجريمة رفعت عدد الأطباء الذين لقوا حتفهم منذ اندلاع الحرب، لرقم يتجاوز 222 طبيباً، جميعهم قتلوا أثناء تأدية واجبهم/ن المهني والإنساني.
وأشارت الدكتورة أديبة إبراهيم، إلى أن الانتهاكات، لا تقتصر على العمليات العسكرية، بل تشمل تحريضاً علنياً ضد الأطباء، لافتة إلى أن بعض أطباء النظام السابق، أطلقوا تهديدات مباشرة ضد أطباء النقابة، ودعوا صراحة إلى “تحليل دمهم”، في سابقة خطيرة تُحرّض على القتل، وتحرض على الكراهية.
وذكرت الدكتورة أديبة أن النقابة وثّقت اعتقال أكثر من 30 طبيباً، إلى جانب اختفاء ما يزيد عن 20 آخرين، لا يُعرف مصيرهم حتى اللحظة. كما تم توثيق اغتصاب ما لا يقل عن 9 طبيبات، وخطف طبيبتين خلال دخول قوات الدعم السريع، إلى ولاية الجزيرة، إضافة إلى حالات اغتصاب، وقعت داخل مستشفيات رفاعة والحصاحيصا بعد اقتحامها.
وأكدت أن هذه الانتهاكات دفعت إلى نزوح وهجرة جماعية للكوادر الطبية إلى الخارج أو إلى مناطق يُعتقد أنّها أكثر أماناً داخل السودان، ما أدى إلى انهيار المنظومة الصحية، بشكل شبه كامل، حيث أُغلقت نحو 85% من المشافي، والمراكز الصحية، وازدادت الوفيات، وانتشرت الأمراض، في ظل تكدُّس المرضى وقلة الموارد.
السبيل الوحيد: الطوارئ الإنسانية ونداء للعدالة
ورغم الظروف القاسية، التى يواجهها الأطباء والطبيبات، أوضحت الدكتورة أديبة، أن الأطباء والطبيبات واصلوا أداء واجبهم/ن المهني والإنساني من خلال تأسيس “غرفة طوارئ 15 أبريل” منذ بداية الحرب، بفروع تغطي معظم الأقاليم. وأضافت أن الفُرق الطبية، انتقلت إلى ود مدني، بعد تصاعد المعارك في الخرطوم، لكنهم تعرضوا مجددًا للقتل والتهديد واستهداف المستشفيات، ما أجبر الكثير منهم على الهروب مرة أخرى.
واختتمت الدكتورة أديبة إبراهيم بالقول:”منذ اليوم الأول، ونحن نناشد المنظمات الدولية، وأطراف النزاع، لكن لا حياة لمن تنادي. نحن أطباء، لا نحمل سلاحاً سوى المناشدة وكتابة البيانات… لا حول لنا ولا قوة… استهداف الأطباء والطبيبات، والكوادر الطبية، لا يمُسّنا نحن فقط، بل، يُهدّد حياة الشعب السوداني كله… استمرار هذا التجاهل يعني المزيد من الموت والانهيار”.
توثيق صعب وعدالة غائبة
ورغم تعقيدات المشهد، تواصل اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء جهودها لتوثيق الانتهاكات، داعية الكوادر الطبية، وأسر المعتقلين للمساهمة في بناء قاعدة بيانات حقوقية، يمكن الرجوع إليها مستقبلاً. لكنها تشير إلى أن عدم القدرة على إصدار إحصاءات دقيقة يعود إلى اتساع رقعة الحرب، وانقطاع الاتصالات، والتدهور الأمني الذي يعوق الوصول إلى العديد من المناطق.
نداء عاجل إلى المجتمع الدولي
في ظل هذه الأوضاع، وجه أطباء سودانيون نداء عاجلاً إلى المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية والإنسانية، مطالبين بتدخل فوري لوقف الانتهاكات، وضمان الإفراج عن المحتجزين والمحتجزات، فى معتقلات طرفي الحرب، وفتح تحقيقات مستقلة في جرائم القتل والاختفاء القسري بحق الكوادر الصحية. كما أشاروا إلى أن استمرار استهداف الأطباء والطبيبات وحرمانهم /ن من الحماية القانونية، يمثل تهديداً وجودياً للقطاع الصحي ويعرض حياة الملايين للخطر.
وفي بلد يعاني من واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه، يبقى العاملون والعاملات في القطاع الصحي، خط الدفاع الأخير في مواجهة كارثة تتجاوز حدود الحرب، وتمتد إلى نسيج المجتمع ومستقبله.