الموبايل كلينيك !
تجمع النُزلاء من كل الغرف، وأقيم ما يشبه الإحتفال، حتى انتصف الليل، فرحاً بالخروج بالسلامة من مدينة احترقت بالفعل
الموبايل كلينيك !
تجمع النُزلاء من كل الغرف، وأقيم ما يشبه الإحتفال، حتى انتصف الليل، فرحاً بالخروج بالسلامة من مدينة احترقت بالفعل
الأبيض: قرشي عوض
سودانس ريبورترس (حصرياً)
كانت شمساً موحشة تلك التي أطلّت فوق جبال الدلنج، بعد ليلةٍ من القتال الدامي، بين قوات الدعم السريع، ولواء سلاح الهجانة، الذي أعاد إحكام سيطرته علي المدينة، وصدّ عنها القوات المهاجمة قبل الشروق، لكن، حدة القتال أقنعت عدداً من الأُسر التي نجت من الموت المؤكد، بضرورة المغادرة… وقبل أن ترتفع الشمس بمقدر زراع، كانت أوّل حافلة رُكّاب مدنية، قد غادرت المدينة، في طريقها إلى مدينة الأبيض… وعندما انتصف النهار، وصلت إلى أول ارتكازات للدعم السريع، عند مدخل مدينة الدبيبات، فتم إيقافها تحت تهديد السلاح… وصعد بعض الجنود، وأخذوا ينظرون إلى الركاب الذين طأطأوا رؤوسهم خوف أن يتعرضوا للاستفزاز، علي أقلّ تقدير…
وبعد أن جال الجندي ببصره علي الجميع، استقرت عيناه علي الطبيب البيطري (س) المسافر مع زوجته الحامل، وطلب منه أن ينزل… أصرت زوجته أن تتبعه، لكن، الركاب منعوها… فكيف لها أن تتصرف بحملها الذي فى بطنها؟… وأخذ صراخها يبتعد، حتى اختفي تماماً، حين غابت الحافلة عن ناظري زوجها… جلس الزوج – الطبيب – تحت ظل الشجرة، وهو ينظر إلى الأرض كما أمروه. وكما روى لصديقه، في وقت لاحق، فقد ارتسمت تحت بصره في تلك اللحظة، دوائر متصلة ببعضها البعض، واستدعت الذاكرة كل حياته الماضية، حتي لحظة اتخاذ القرار بمغادرة الدلنج، المدينة التي أحبها، وفتحت له ذراعيها، وخلق في مجتمعها علاقات عديدة، واتسعت أمامه فيها سبل كسب العيش، من خلال مزاولة مهنته كطبيب بيطري… وماكان يتخيل انه سيغادرها في يوم من الأيام. وراح يسأل الله وهو في اطراقته تلك، أن ينزل عليه من اللطف، أضعاف ما أنزل من البلاء.
كأن قوة في السماء قالت “آآآآآمين” بحسب روايته… إذ سمع صوتاً يناديه يادكتور (فلان)… فرفع رأسه ليجد أمامه جندي يحمل سلاحه، فأيقن أن الآزفة قد أزفت وتشهّد في سره… إلّا أن الجندي قال له: “إنك لم تعرفني”!!… فأجابه بالنفي… وأردف الجندي أنا إبن صاحب “المُراح” الذي كنت تعالج له الأبقار، وتوفر له اللقاحات البيطرية. من حقك أن لا تعرفني، فحينما كنت تأتي بعربتك البيطرية المجهزة، كنت أنا صغيراً، “اسرح” مع الأبقار طوال النهار… ولكني، أتذكر أننا كنا نتوقف نحن الصبية، ونتأمل في شكل العربة التى تاتي بها، ونستنشق رائحة البنزين المحترق، ونجد في ذلك متعة ما بعدها متعة!.تذكر الطبيب والد الجندي، وتراءت أمامه، الفترة التي قضاها في تعقب القطعان في “المخارف” و”النُزل” و”المخاتيت” بعربته (الموبايل كلينك) يعالج الأبقار، ويُقدم اللقحات، والعقاقير، والإرشادات المطلوبة في التعامل مع “البهائم” أثناء فترة ماقبل الحمل، والاستعداد للإخصاب، مما خلق له، علاقات صداقة، بين الكثير من “شيوخ العرب”، في بادية كردفان.ويضيف الطبيب لصديقه، أنّه – في تلك اللحظة – خلع علي الجندي صورة ملاك، باجنحة يكاد يطير … وكاد ينهض من جلسته تلك، ليعانق الجندي، لكنه، خاف أن يسبب له، ولنفسه المتاعب، فآثر “الصمت، الذي فيه كلام، وكلام وكلام”!…
أردف الجندي، لو كنتُ مع الجنود، فى خيمة الإرتكاز، لما تركتهم ينزلونك من الحافلة… ولكن، لا بأس، فهناك عربة تابعة لنا، سوف تأتي بعد قليل، وسوف يأخذونك معهم إلى الأبيض… انصرف الجندي تاركاً الطبيب، في عزلته تلك، حتى أنه ماكاد يحس باشعة الشمس عليه، حين انحدرت في الإتجاه الغربي.
عاد إليه الجندي، وسأله لماذا يجلس في الشمس؟. وأخذه إلى مكانٍ ظليل، وأحضر له ماءاً بارداً، وكوباً من الشاي، ثم أعطاه هاتفه، ليتحدث إلى زوجته، والتي أخبرها، بأنه سيكون معها قبل “مغيب” الشمس، وعليها، أن تقف في مكانٍ ظاهرٍ في “طرف” السوق… ثم قال للجندي – بعد أن شكره – بأنه يُريد أن يصلي فأحضر له “إبريق” و”مُصلاية”، وأشار له إلى “بيت الأدب”، ليقطع “الجٌمار”!.
في هذه الأثناء، وصلت العربة، التي كان ينتظرها، فقال الجندي لقائد “القُوة”، وهو ضابط برتبة نقيب، بأن هذا الرجل طبيب بيطري، وهو صديق لوالده، وكان يُقدم لهم خدمات جليلة في المرعى، وإذا حدث له مكروه، فأنّ والده لن يسامحه. فعليكم أن توصلوه إلى مكان قريب من الأبيض.
صعد الطبيب إلى العربة، وجلس بين الجنود، الذين لم يكلمهم، أو يكلموه طوال الرحلة… وحين اقتربت العربة من المدينة المحاطة بالخنادق والمباني الحكومية التي ينتشر علي سطحها قناصة الجيش والقوات الخاصة، كان لابُدّ لعربة الدعم السريع من تغيير وجهتها، فانحرفت في الإتجاه الشرقي، واتجهت صوب مدينة الرهد، التي تقع تحت سيطرتهم…حينها، تذكّروا الطبيب، فأنزلوه على عجل، وانطلقوا في سرعة الريح.
اِتّجه الطبيب في حذرٍ نحو المدينة… فليس في إمكانه أن يبقى في مكانه، أو أن يتراجع نحو ارتكازات الدعم السريع… انتبه، على صوت يناديه أن يقترب، وحين رفع بصره، وجد أمامه ثلاثة رجال أخبروه على الفور بأنهم من إستخبارات الفرقة الخامسة مشاة الأبيض، وسالوه عن وجهته، ومن أين أتى ؟… أخبرهم بقصته، فصدقوه لأنّ هذا مايحدث في مثل هذه الحالات… طلبوا منه أن يُسرع الخطى، ويصل السوق قبل ميعاد حظر التجوال، ونادوا على سائق “تُك تُك” أن يُوصله دون يأخذ منه أجر، بعد أخبرهم بأن ليس لديه مال.
في وسط السوق، استوقف رجل يحمل هاتف جوال، وأخبره بقصته، وطلب منه أن يعطيه هاتفه، ليتحدث إلى زوجته حتى يعرف مكانها، والتي طلب منها أن تتوقف عن البكاء، حتى تستطيع أن تصف له مكان وجودها بالتحديد. واصطحبه صاحب الهاتف، حتى إلتقى بزوجته، والتي أخبرته، بأنها قد عرفت بأن كل جيرانهم النازحين من الدلنج، قد استقروا في داخلية إسمها “عروس الرمال”، تتبع لجامعة كردفان… حينها تدخل سائق “التك تك”، وقال إنه يعرف مكانها، ولكن، عليهم أن يسرعوا حتى لايداهمهم ميعاد حظر التجوال الذي اقترب، لأن عبور ارتكازات الجيش داخل المدينة في مثل هذا الوقت، عملية صعب للغاية.
تجمع النُزلاء من كل الغرف، وأقيم ما يشبه الإحتفال، حتى انتصف الليل، فرحاً بالخروج بالسلامة من مدينة احترقت بالفعل… وأخذ الطبيب يتأمل منزله، الذي تركه خلفه، في المدينة، والذي أنفق جهداً ووقتاً في تأسيسه… ولكن، لم يعز عليه أيّ شيء من الأشياء التي خلّفها وراءه مُجبراً قدرما أحزنه فراق عربته “الموبايل كلينك” التي كانت سبباً في نجاته من براثن الموت المؤكد!!.