Englishالرأيبحوث

نهاية الجيل الثاني من حركات التمرد في دارفور: الحلم والكابوس

نهاية الجيل الثاني من حركات التمرد في دارفور: الحلم والكابوس

د. سيف الدين داؤد عبد الرحمن*

(1)

كان مصدر إلهام كتابة هذه المقالة The end of Second Generation Rebellion  Movements in Darfur: The Dream and the Nightmare هي الزيارة الاجتماعية الاخيرة لي في شهر ديسمبر الماضي 2015, الي جنوب دارفور مسقط رأسي و ولاية وسط دارفور حيث درست فيها المرحلة الثانوية في زالنجي الثانوية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي و التي شكلت الإنطلاق الأكاديمي لي مع زملاء ما زلت أتذكرهم رغم بعد المسافة  و قساواة الحياة منهم الدكتور ياسر ساتي و الدكتور ابوالبشر عبدالرحمن و دكتور بدرالدين عبدالرحمن و الصادق يوري و الاخ المعتمد سالم شريف وغيرهم من الاصدقاء و الاحباب لا يسع المجال لحصرهم.

هذه الزيارة اتاحت لي فرصة الوقوف “على الأرض” في مناطق وقري بعيدة والتي ربما تعتبر مغامرة في نظر البعض. خلال الرحلة، التقيت  عدد من الأصدقاء زملاء دراسة بعضهم الآن  في المناصب القيادية السياسية وكان النقاش خليط ما بين الزكريات والمناقشة الجادة المثمرة لمستقبل البلد. كنت متأثر جدا بالتاريخ وشريط الزكريات خلال هذه الرحلة والتي زرت خلالها مدرستي الثانوية بزالنجي وعمتي بوادي صالح والتي آخر مرة زرتها قبل عشرون عاما ! علي طول الطريق وفي القهاوي كنت اسأل اهلنا البسطاء ومعرفة معاش الناس وارآءهم فيما يتعلق بالمستقبل والدروس المستفادة من التمرد. منهم من مازال يؤمن بتوقيع عبد الواحد سوف تحل المشكلة، ومنهم من يري الحاجة الي تعاون و فهم جديد بين القبائل وان البلد واسعة تسع الجميع. غير ان اهم دلالة علي ان اهلنا البسطاء ليست لهم مشاكل مع بعضهم البعض هي عربة اللاندكروزر التي كانت تستخدم في القتل اصبحت اهم معالم الفوائد المشتركة بين الفور و العرب في نقل البضائع و الركاب حيث كنت شخصيا احد الركاب. ولعمري هذه هي دارفور التي نشئنا فيها قبل اللعب بالكرت القبلي من قبل المركز.

(2)

هذه المادة إسهام مني في النقاش الذي يدور الآن فيما يتعلق بمستقل السودان و دارفور بصورة عامة. حاولت ان يكون المقال اقرب الي التحليل الاكاديمي من التحليل الصحفي من خلال  تقييم سريع للجيل الثاني من التمرد فيما يتعلق بالتجربة والخبرة  العسكرية والسياسية Political and Military Experiences. الافتراض الرئيسي في هذا المقال هو أن الهدف النهائي للتمرد هو زيادة التكاليف بالنسبة للحكومة إلى النقطة التي يصبح فيها إعطاء الحقوق السياسية أفضل من الحرب.

وما تعلمناه من تاريخ الحركات المسلحة – كما سوف نرى – لا ينتهي النضال من أجل المطالب عندما تصمت المدافع بل تستمر في ظل معطيات جديدة وصعبة على قدم المساواة ومرهقة إذا لم تعالج الأسباب الرئيسية للتمرد. الأحداث التي جرت مؤخرا في دارفور ساهمت سلبا على السودان كبلد ولجميع السودانيين في المجتمع الدولي.

ولكن قبل الدخول في عملية تقييمية للجيل الثاني من حركات التمرد وصراعها مع المركز لابد من الاشارة لبعض التجارب العالمية فيما يتعلق بالثورات والحركات المسلحة.

ولكننا نبدأ إولاً: التمرد كوسيلة إلى الحقوق السياسية والمشاركة في وضع القرار السياسي Rebellion as a means for political rights and participation in decision making process

يرى العديد من الكتاب أن الحرب ليست سوى استمرار للسياسة بوسائل اخرى تجسد هذا الموقف. ويتناقض هذا الموقف من قبل العديد من الدراسات الحديثة والتي تشير ان الحملات اللاعنيفة هي أكثر ملائمة لتحقيق هدف سياسي من تلك العنيفة (Stephan and Chenoweth 2008).

الحملات اللاعنيفة هي إلى حد كبير أكثر قوة والهاماً لانها تتمتع بالتفوق الاخلاقي. ونتيحة لذلك تتمتع بالمزيد من الدعم الدولي والمحلي. ويرى العديد ان قوات الأمن لن تترد في قمع الاحتجاجات السلمية. ولكن لماذا تلجا دائماً الجماعات المتمردة للعنف؟ في حين تضييق الخناق عن الحركات اللاعنيفة يكون ذا انعكاسات سلبية شديدة على الدولة، والتكاليف المحتملة التي تواجهها الدولة لقمع اللاعنيفة من المحتمل ان تكون صفر.

أشار (Greene 1990) في استعراضه للحركات الثورية المختلفة عبر التاريخ أشار إلى انه من النادر للغاية بالنسبة للثورات ان تنجح دون دعم من الشرائح الاجتماعية العليا في المجتمع “خصوصا المثقفين” وبالتالي يجب ان تكون هناك دوافع مشتركة للثورة يتحدى الحدود الطبيقة والاثنية. وهذا ربما يكون صعباً في الوقت الحالي، ولكن هذا التطوريعتبر احد مكونات الجيل الثالث للحركات الثورية  والذي يصعب مواجهته بالصورة التقليدية القائمة على تجزئة الحلول. وهذا بالضبط ما حدث في جنوب السودان حيث ان تقرير المصير لم يكن مطلوباً وتطور بتطور الصراع. وبالتالي القيام بعمل استراتيجية عدالة جزئية – اى تجزئة الحلول – يؤجل فقط من عمر الصراع ولم يعد فاعلاً على المدى الطويل ولن يجعل النظام مستقراً كما هو الحال الآن حيث الصفقة الشاملة مطلوبة.

(3)

الحركات الثورية المتمردة العوامل الحاسمة:

هنالك العديد من العوامل التي تعتبر حاسمة في تطور الثورات تتضمن مدى التفاوت في اللامساوة والفقر والتظلمات السياسية و الأجتماعية و الاقتصادية التي تزيد من درجة الانقسام على أسس عرقية، الفساد الحكومي والمحسوبية في الخدمة المدنية والتي ستشكل الطبقى الوسطى، مستوى التسليح ودرجة ولاء القوات العسكرية الحكومية.

اشار (Gregory D. Saxton e.g. Gurr 2000) في ورقتة Repression, Grievances, Mobilization, And Rebellion: A New Test of Gurr’s Model of Ethno-political Rebellion الثورات هي أداة فعالة للجماعات العرقية المحرومة على التغلب على الحرمان وتحقيق الحقوق السياسية.

من الناحية النظرية، عندما تحرم الحكومات جماعات عرقية معينة داخل الدولة، فإنها تفعل ذلك عن قصد – وليس عن طريق الخطأ
من خلال حرمان الجماعات العرقية و إقصائهم من المشاركة في القنوات السياسية التقليدية وتدفعهم نحو التمرد العنيف. وبالتالي، يصبح التمرد العنيف بديلا مجديا  viable alternative  للفئات المحرومة. وقد شهد التاريخ الكثير من الجماعات العرقية استبعادا” سياسيا التي لجأت إلى العنف ضد الدولة ونجحت في التغلب على حرمانهم.

الثقافة التقليدية للعنف واللاعنف كوسيلة من وسائل الاحتجاج على الظلم الاجتماعي، حجم البلد وطبيعة التضاريس، ومستوى مشاركة البلدان الاخرى من خلال اما تؤيد او تعارض تطوير ونجاح الحركة الثورية كما هو الحال بالنسبة الدعم الليبي في السابق، تشاد وجنوب السودان للحركات المسلحة. ومن كل الاسباب السابقة الدعم المباشر من الدول الاخرى يعتبر امراً حاسماً.

والنجاح ليس في امكانية   المتمردين من تحقيق نصر عسكري “على الأرض” ولكن  من الاستنزاف التدريجي للقدرة السياسية على خصومهم على شن الحرب. في مثل هذه الصراعات غير المتماثلة asymmetric wars ، يستطيع   المتمردين من اكتساب المزيد من الانتصارات سياسيا من حالة الجمود العسكري أو حتى الهزيمة (Goldfrank 1994).

(4)

يرى”(Greene 1990) ” صعوبة تصنيف الحركات الثورية بصورة عامة اما ليبرالية بشكل كامل كما هو الحال في جناح مني وعبد الواحد او محافظة حسب المعتقدات السائدة بمعنى آخر العلمانية مقابل التوجه الديني. ولكن الشاهد ان معظم الحركات تشمل الجناحين أي الاتجاه اليميني واليساري. ونقطة الالتقاء هنا الجناحين للحركات المسلحة يهدفان للحصول على اكبر قدر من العدالة الاجتماعية من خلال تغيير راديكالي جوهري للبنية الاقتصادية والاجتماعية القائمة. وهي خصائص يسارية في جانب الاشادة من الأطراف الاخرى التذكير بالعدالة والقيم والاخلاق الاسلامية وهي تمثل الجانب المحافظ في إدارة دفة السياسة وتمثله حركة العدل والمساواة. وهذا لاينطبق فقط على حركات دارفور وانما العديد من الحركات الثورية في العالم خاصة في امريكا اللاتينية والتذكير بحركة تحرير السودان التي بدأت يسارية وانتهى بها الحال إلى حركة ليبرالية تؤمن بالديمقراطية والاقتصاد الحر. وهذا هو الحال بالنسبة للثورة الاسلامية الايرانية.

واشار العديد من الباحثيين اما من خلال حصول هذه العوامل متزامنة او في ظل احباط جزء كبير من المجتمع وانقسام في وسط النخب التي تسيطر على السلطة والثروة بالإضافة إلى توحيد الدوافع. وازمة سياسية حادة تشل القدرات الإدارية للدولة وذلك اما عن طريق كارثة طبيعية، كساد اقتصادي او فقدان الدعم العسكري اللازم مما يجعل الدولة غير قادرة لتصريف امور الدولة العادية والتكيف مع فعالية حركات التمرد (Fullerton 2006).

بعض الاسباب التي ادت إلى اختيار الافراد لدعم الثورات المسلحة في كثير من الاحيان يعتبر شخصياً. خاصة في الحركات غير الايدلوجية، منها على سبيل المثال الرغبة في تحسين الاحوال المادية، الانتقام من الخصوم، او فقط ان  بعض الاصدقاء يدعمون الثوار. واشار (DeFronzo, 2005) إلى ان بعض المشاركين لديهم خلفيات اقتصادية مختلفة وأيضاً لديهم دوافع مشتركة توحدهم لجهد مشترك.

(5)

الآن، هدف الحصول على نظام ديمقراطي اصبح دافع قوي يوحد الناس من خلال طبقاتهم الاجتماعية المختلفة ولكن ما لم تكن هناك تطمينات من الحركات المسلحة فان مثل هذا الهدف البسيط والقوي يكون بعيد المنال في ظل الانقسام الاثني الحاد والتداخل الاثني والسياسي وتطلعات الطبقة المتوسطة التي تعتبر ذات مكاسب تاريخية تخشى ايضا  من القادم من الهامش الذي أصبح مؤثراً ولم يعد كما كان هامشياً سواء كان بالتاثير السلبي او الايجابي وهذا ما يؤدي إلى التحالف الخفي ما بين النظام الحاكم والطبقة السياسية في الاحزاب الاخرى ذات نفس الجزور وهو “تحالف المدافعين” Coalition of interest groups او بمعني اخر ائتلاف جماعات المصالح الذي يوحده الخوف من القادم او تاثيره علي المصالح القائمة.

علي ضوء هذه الخلفية من خلال معاينة بعض  الادب المكتوب Literature review سوف نبني تقيمنا لهذه المرحلة من عمر التمرد والذي نامل ان يكون  موضوعيا ومسؤول بوصفي احد ابناء المنطقة وذو خلفية اكاديمية بحتة .

(6)

بادئ ذي بدء، التقيت لأول مرة بالدكتور محمد ابراهيم دريج في نهاية عام 2003 إبان زيارة اكاديمية للملكة المتحدة وذلك من خلال اجتماع خاص برابطة ابناء دارفور وكردفان في ذلك الوقت.

وقد قمت خلال الزيارة بعمل مقابلة مطولة مع الدكتور دريج تطرقت لعملية المجاعة في بداية الثمانينات وأهمية تأسيس جبهة نهضة دارفور في ذلك الوقت.

وقد أشار الدكتور دريج ان حركة نهضة دارفور كانت حركة مطلبية محضة تشير إلى ضرورة التذكير بالفوارق التنموية في ذاك الوقت وليست لها أي دواعي عنصرية، وعلى هذا الأساس ظهرت أيضاً جبهة البجا وجبال النوبة وحزب سانو وكلها تتطالب بنفس الدواعي التنموية. وبذلك تعتبر جبهة نهضة دارفور في بداية الستينات الإطار الفكري والمؤسسي لبداية ما يعرف حالياً بصراع المركز والهامش.

الفارق الزمني ما بين جبهة نهضة دارفور والصراع المسلح الذي بدأ في عام 2002 أربعون عاماً. ورغم ان التمرد الأخير يبدو انه تطور بصورة مفاجئة إلا ان هناك دلائل عديدة تشير إلى تراكم مظاهر الغبن التاريخية. وربما بتدبرنا لهذا الزمن الطويل لقيام الحركات المسلحة في دارفور هي انه على الرغم من بعض الفوارق التنموية بين مختلف أقاليم السودان في ذاك الوقت إلا انه بشكل عام لا توجد فوارق تنموية بشكل كبير فيما يتعلق بعدالة التوزيع والفوارق الاجتماعية.

ولكن يمكننا الأشارة إلى أن الطبقة المتوسطة في الخدمة المدنية كانت ذات طبيعة استقصائية انتقائية وهذا يعتبر لب المشكلة. ومع ذلك فان المشاركة السياسية “ولو بشكل رمزي” لم تكن تشير إلى مرحلة “الأزمة”، وأبناء دارفور الذين استطاعوا الدخول إلى الجامعات كانوا متقدمين أكاديمياً ولكن مفهوم الدولة العميقة لم يتيح لهم المشاركة في الخدمة المدنية بصورة متوازنة وفعالة. بالرغم من الحكم العسكري الطويل لنميري لم تظهر بوادر الصراع العنصري الصارخ ما بين أولاد البحر وأولاد الغرب الذي كان أشدُه في مرحلة الإنقاذ.

ولذلك يمكننا أن نشير إلى أن هذه المرحلة الطويلة كانت تعتبر مرحلة التشكيل والذي يغلب عليها الجانب الاحتجاجي الوجداني Emotional protest ، لم يرتقي للفعل السياسي ذات القيادة الفعالة Effective and credible political leadership .

(7)

الموجة الثانية من التمرد في دارفور The second wave of the rebellion movements  هزت هيكل السلطة وهددت المكاسب التاريخية Historical gains ليس فقط للنظام الحالي ولكن أيضاَ لمجموعة واسعة من الطبقة الوسطى المتربحة وذات المكاسب التاريخية مما ادى إلى ظهور تحالف خفي بين السلطة الحاكمة وأصحاب المصالح  الذين تقاطعت وهددت مصالحهم.

تضافرت عوامل عديدة – لسنا بسب الإشارة لها في هذا المقال – في بروز التمرد الثاني الذي اندلع في عام 2002. ما يهمنا هنا ليس كيف قام التمرد ولكن إلى أي حد أستطاع أن يحقق التمرد أهدافه المعلنة المرتبطة بقضايا دارفور وما إذا كان التمرد فاعلاً في القضايا الأساسية والمكاسب والخسائر التي ترتب على هذا التمرد؟ في الواقع، ان الوضع الذي خلفه الجيل الثاني من التمرد سوف يستمر ولكن باشكال مختلفة طالما أن هناك شبه اجماع الآن أن العنف السياسي Political violence   يعتبر الصك والملاذ الاخير للمظلومين. ومع ذلك، لا اعرف كيف يكون الجيل الثالث من التمرد والذي بدات مراحل تشكله بوحدة أبناء دارفور في الجامعات ليست بالجغرافية ولكن بهوية الاثنيات الجماعية Collective Ethnicity identity  ذات الجزور الدارفورية  والمنتشرة في جميع السودان.

دعونا أن نبدأ بالسؤال المباشر لماذا ينخرط الناس في عمل جماعي مسلح محفوف بالمخاطر سواء بسبب المظالم أو التضامن مع الاخرين؟ وما هي فرص تحقيق مكاسب سياسية من عمل كهذا؟ نأمل الاجابة على ذلك يساعدنا في النظر لمستقبل البلد بصورة مختلفة. والسؤال الذي يدور في أذهان السودانيين هو التطرف من قبل طرفي الصراع  – الحكومة والجماعات المتمردة  Extremisms from both conflict parties   – فيما يتعلق ما إذا كان التمرد يملك أدوات أخرى أقل دموية تسهم في حقن سفك الدماء والفظائع المرتبطة بالحروب الأهلية كما هو الحال في جنوب السودان، ونيجيريا، والكنغو، وانغولا، ورواندا،…..الخ

بالمقابل مع إذا كان تجربة القمع الجماعي للحكومة Mass repression through violence  تعتبر تقنية فعالة لمكافحة التمرد والمحافظة على الوضع كما هو، أي المحافظة على توزيع السلطة بين مجموعات معينة رغم التكلفة الكبيرة والتي تهدد وجود الدولة مستقبلاً والعزلة الدولية والخسائر البشرية التي تزيد من الاحتقان.

(8)

فيما يتعلق بالاجابة عن السؤال السابق فإن الانتفاضة العنيفة تعتبر مسعى محفوف بالمخاطر ورغم ان الاجابة في بعض الحالات بنعم بما تقتضيه قواعد اللعبة السياسية بإعتبارها خياراً استراتيجياً إلا أن الواقع يشير إلى أن الدولة عادةً تفوز بمثل هذا النوع من المغامرات لعدم التكافؤ العسكري. والانتصارات التي يحققها التمرد هي في الواقع انتصارات مرحلية مبنية على حرب العصابات لا تسمح بالتاثير على بيئة السلطة.

والسؤال الاكثر الحاحاً ويهم اخواننا الثوار ما هي عوامل تعويض القوة العسكرية التي تسمح للتمرد بتحقيق كسب سياسي حصري؟ وهذا السؤال يعتبر الأهم في تطور التمرد و يؤثر كثيراً على هدف المتمردين وما إذا كانت المجموعة تهدف إلى هزيمة الدولة والنخبة الحاكمة، فإن فرص النجاح تكون منخفضة جداً في معظم الحالات. ومن ناحية اخرى حتي إذا كان الهدف أكثر تواضعاً على سبيل المثال الحصول على الحقوق السياسية الاساسية لن تكون هناك فرصة كبيرة للنجاح في وقت قصير حيث هناك حاجة الي برجماتية سياسية و قدرة علي المناورة باستمرار  في اساليب واهداف التمرد .

النجاح الوحيد للنهج العسكري للتمرد هو خلق حالة من عدم الاستقرار بصورة كبيرة  بحيث تستطيع قوات التمرد خلق انتصارات “على الأرض” معزولة تسهم في التركيز الاعلامي والاستهلاك المحلي في مواجهة الدولة بضغط مستمر من المنظمات الدولية.

ولكن علي المدي الطويل حينما تصبح الوسيلة Rebellion as instrument or to pursue policy objectives كهدف فان ذلك يسهم كثيرا في معاناة المدنين وتطويل عمد الحرب. وعملية السعي الي وضع السكان في مخيمات النزوح اللانسانية هي في الواقع علي المدي الطويل تجعل المجتمع ينظر نظرة سلبية لهذه القبائل من خلال اعمال كسب المعيشة ذات الطبقة الاقل Lower class التي يقوم بها النازحين لمواصل معايشهم من خدمة المنازل وما شابه ذلك من نظرة دونية لم يكونوا في الحاجة لها  في تصنيفات السودانين تشبه اوضاع الكامبو في المشاريع الزراعية في ولاية الجزيرة. وهنا يجب ان اشير وازكر ان معاناة النازحين هي عار كبير Stigma  يطارد جميع السودانين حينما يذكر اسم السودان في اي محفل لن يكون ذلك جميلا لشعب في مجتمعات الحداثة وما بعد الحداثة Modernization and post modernization societies  .هناك حاجة لرد الاعتبار لهم من خلال الدمج المباشر للذين يرغبون البقاء في المدن من خلال التخطيط والخدمات. بمعني آخر تطبيق نموذج دكتور شرف الدين بانقا الذي حول العاصمة من معسكرات نزوح تحيط بها من كل جانب الي بيئة حضرية متقدمة.

هناك خيبة امل كبيرة نتجت في الفجوة ما بين توقعات الناس وقدرة الحركات على القيادة. وهذه التوقعات هي السقف للمستوى الممكن التي يمكن ان تصله الحركات. وهذا ما يقودنا إلى ما إذا كانت الثورات المسلحة في طور النمو او النضوج Maturity or prematurity stage؟ تهدف الى  التغلب على الحرمان وتحقيق الحقوق السياسية هو أكثر تواضعا  وقبولا من هزيمة الدولة والجماعات في السلطة (Desch 2002; 2003). في اشارة الى حرب فيتنام،  يقول   (Mack 1975: 177) أن التبسيط و الافتراض أن التفوق العسكري التقليدي بالضرورة يسود في الحرب الاهلية لم يعد كذلك. فمن غير المرجح أن التشهير في وسائل الإعلام الدولية و شأنه جماعات حقوق الإنسان أو فرض عقوبات محددة تؤثر على حكومة مستقرة نسبيا ( 2002;2003؛ Desch). و بالمقابل، فان   مثل هذه السياقات، المساعي السلمية قد لا تسفر عن النجاح المطلوب. و هذا هو التوازن  المدمر الآن بين الحكومة و الحركات المسلحة .

وقد نجحت الحركات المسلحة في هذا المبدا وان تطبيع السودان مع الاسرة الدولية لا يمر الا من خلال تحقيق بعض هذه الاهداف. وهذا ما نجحت الحركات في خلقه. ولكنها فشلت في استغلال الفرصة المناسبة Ripe moment  لهذا الزخم. ولذلك فإن التجزئة في قضايا السودان للتطبيع مع الأسرة الدولية لن تنجح. وهناك حاجة الي صفقة شاملة.

وفي الحقيقة، فإن الحرب ليست كلها مساوئ! اتاحت مشكلة دارفور ان يتعرف السودانيين لمستوي اكاديمي عالي ومواهب ادبية وعلمية من ابناء دارفور لم يكن بالامكان معرفتهم في ظل الظروف العادية.  وهذا مايجعل ان تستمر قضية دارفور الي الجيل الثالث لانها اصبحت ذات تأثير كبير من ابناء دارفور خاصة علي الصعيد الخارجي.

(10)

قال”هنري كسنجر”  وزير الخارجية الامريكية الاسبق ذات مرة وهو يتحدث عن الهزيمة الأمريكية في فيتنام: يفوز المسلحين في كل مرة أنها لا تخسر والجيوش تخسر في كل مرة ولاتفوز.  ما ينبغي القيام به  يجب علينا أن نقبل بشيئين: أولا، لن تهزم حركة مسلحة عسكريا و ان حدث ذلك يكون مكلف سياسيا مع الاسرة الدولية وضرب المدنيين. ثانيا، فقط قوة وشرعية سياسية يمكن أن تضعف الظروف التي ادت الي وجود حركات التمرد المسلح  و هو أسهل بكثير من الحملة العسكرية .

وهذه الخطة واضحة جداً خاصة اعتمادها لتحريك الجهود ووضع المشكلة في مخيلة السياسة الدولية.

هل التمرد المسلح يعتبر خطوة مهمة تؤدي إلى مرحلة النضوج في القيادة السياسية؟

تشير كل الاحداث الاخيرة للجيل الثاني من التمرد في دارفور ان التمرد قد خلق بالفعل ظروف مواتية لتمرد طويل الاجل تتبناه الاجيال القادمة.

الاحداث الاخيرة لطلاب دارفور بالجامعات تشير إلى ذلك حيث ان استجابة الحكومة وضعت كل أبناء دارفور غير المنتمين للنظام في سلة واحدة ساهمت إلى حد كبير بتوحيد أبناء دارفور اثنياً وهذا ما فشلت فيه الحركات المسلحة.

وربما اشير سريعاً هنا إلى الجدل القائم ما إذا كان ان يكون أقليم دارفور كياناً واحداً أو أقاليم إدارية مختلفة؟ شخصياً أدعم الاقاليم المتعددة وإذا كان ذلك بمعيار إداري وسياسي. واثبت التاريخ ان أخذ السلطة ليس شيئاً جيداً وانما يزيد من حالة عدم الاستقرار، وبالمقابل ان التقسيم الإداري لن يغير النظرة الكلية لابناء دارفور في المجتمع السوداني وما اذا كانت النظرة سلبية ام ايجابية  بانهم كلهم أبناء دارفور. كما هو الحال الآن في شمال السودان.

ويعتبر التقسيم الإداري معركة صغيرة في جوهر موضوع المشاركة السياسية والعدالة والذي شكل نقطة انطلاقة للتمرد. وهذا سوف يخلق الوقود الكافي لما يعرف بالتحدي الجماعي. والذي يعتبر الإنجاز الأكثر نجاحاً للتمرد في جيله الثاني من خلال جعل ثورة التمرد عصية في مقابلة الحكومة وللأسف هذا الجانب لم يتم مناقشته بصورة عميقة فيما يتعلق بتحليلات الصراع الدائر الآن في دارفور. حيث وضع كل الأسس للجيل الثالث بقيادة سياسية أكثر من القيادة العسكرية وأضفاء الطابع المؤسسي وتغييرات في السلوك المعرفي في الصورة المرتقبة. فالوحدة الثقافية هي أكبر من الوحدة الجغرافية حيث دارفور موجودة في جميع السودان.

عرض العلماء نظريات مثيرة للاهتمام في كيفية وأسباب تطور الثورة، ولكن فشلوا في شرح عموماً كيف ان عناصر مماثلة قد انتجت ثورة ناجحة في بعض الحالات وليس غيرها. ما تعلمناه من خلال الانشطار المتواصل للحركات هو انعدام المرونة في داخل الهياكل السياسية والعسكرية. هذا الوضع ابعد المثقفين من أبناء دارفور في المشاركة الفكرية وتبيين رؤية ومهمة الحركات وبالمقابل يعتبر نجاح مؤقت للحكومة في السيطرة على الحركات.

اكبر المآزق للحركات خلال هذ الفترة هو غياب البيان السياسي الواضح فيما يتعلق بالطرح السياسي المتقدم والذي بدأ يتشكل خلال العامين الاخيرين من خلال “منبر الجبهة الثورية”. حيث يتفق كل أبناء الأقليم حتى الذين يعتبرون اعضاء في الحزب السياسي الحاكم بالمشكلة ولكن يختلفون في رؤية المدخل للحل السياسي الشامل.

الثقل العسكري كان بارزاً عن العمل السياسي. هذا الوضع جعل العديد من السودانيين من الأقاليم الأخرى يتشككون في جدوى القيادة السياسية للتمرد ومع إذا كان قادة التمرد يحملون الغبن فقط، وقدرتهم على توحيد السودانيين حتي جعل العديد من الاخوة  من الشمال غير المنتمين للحزب الحاكم غير متحمسين على التحول الديمقراطي .

عدم القدرة على التحريك السياسي يعتبر مشكلة كبيرة فيما يتعلق بالفضاء السياسي Political space  والقيادة السياسية التي ستنطلق منه الحركات. القطيعة بين الحركات والمثقفين اضرت كثيراً لخلق رؤية شاملة.

(11)

والسؤال الأكثر الحاحاً ما إذا كان ان تتطور الحركات إلى أحزاب سياسية؟ ام تدعم الأحزاب السياسية القائمة؟ ام تحتمي بالاتفاقيات فقط التي قد لا تكون موجودة في ظل تغيير النظام الحالي؟ كل هذه الاسئلة محتاجة لرؤية عميقة من الحركات المسلحة.

اخيراً، الصراع الذي يدور ما بين النخبة الرائدة بين أعضاء الحركات وعملية التوحيد سوف تستغرق وقتاً طويلاً اهمها بناء إطار لواقع عملية التوحيد والذي يحتاج إلى إطاراً فكرياً قوياً وجذاباً.

القدرة على المناورة السياسية كان مختلطاً، حيث بعض الحركات استطاعت ذلك فيما تجمدت الاخرى – خاصة حركة عبد الواحد. ومن التداعيات المباشرة لذلك هي اعتقاد حركة عبد الواحد بان بقاء الناس في المعسكرات يعني استمرار “النضال”. وهذا فهم خاطئ احدثه التحولات الحالية خاصة تحالف الجبهة الثورية.

اعتقال حياة النازحين بدون قوة دفع سياسية لا تسهم كثيراً في الحياة السياسية للحركة المسلحة وبمرور الوقت لا تشكل ضغطاً مستمراً للحكومة خاصة حينما ينتبه النازحين لطبيعة الحياة المزرية التي يعيشونها.

هناك حاجة للحركات المسلحة لاعادة تعريف الصراع وتطوير ادوات اخرى الآن، وتقليل آثار الحرب على المدنيين. وغياب جيل كامل من التعليم ليس بالامر السهل وسوف يكون اكبر عقبة تواجه الحركات عند التحول السياسي Lost generation .

استطاعت الحركات ان تسهم في عزلة الحكومة دولياً ولم تستطيع الحكومة ان تؤمن بضرورة طرح رؤية جديدة غير تكتيكية. الحوار الذي يدور الآن يعتبر الفرصة الاخيرة في صدق النوايا والمصداقية وجعل القومية تنافس الاثنية Nationalism Competing Ethnicitism

فالتاريخ اخبرنا بان الحركات المسلحة في افريقيا ذات خسائر بشرية كبيرة. وغياب الاستقرار الدائم للحكومة التي تسهم بدرجة كبيرة في هذه الفظائع من خلال الانكار وضرب المدنيين في مناطق الصراع وتشريدهم. وربما الوضع الاقتصادي الهش Fragile Economic Situation  سيسهم في فقدان المكاسب التاريخية التي تعتمد على الدولة ولكن يوفر فرصة لرؤية جديدة في اطار الحل الشامل. وتعلمنا من التاريخ أيضاً ان انهيار الحكومة بالاسباب التراكمية يؤدي إلى عواقب وخسارة لجميع الأطراف.

آمل ان المقال قدم بعض الاضاءات للحكومة والحركات  معاً حيث ان المجتمعات في جميع انحاء العالم تسعى للحكم الديمقراطي الحقيقي او على الأقل حكم يعمل على وجود درجة من الشمولية  بحيث يشعر الجميع بالمشاركة السياسية او غير معزولين وانهم ينتمون لهذا البلد بغض النظر عن من الذي يحكم. في الماضي، وحتى مؤخرا ، فإنه من المستبعد جدا أن  اي مجموعة ثورية فشلت علي البقاء على قيد الحياة من خلال هزيمة عسكرية ان تتلاشي كليا.

أخيراً، الحلم The dream  بالنسبة لي هو وجود قطار من الوجدان السوداني المثير للاعجاب وقادر على حل مشاكل هامش المجتمع ليس بمفهومه الاثني ولكن لكل الطبقات في المجتمع بجميع أقاليم السودان إلى الحياة  الكريمة وان نفتخر بهذا التنوع البديع وان يفهم الجميع استمرار السودان بوضعه   الحالي فيه خسارة للجميع.

اما الكابوس Nightmare   بالنسبة لي هو وضوح مشاكل السودان حيث اصبحنا طبقة منبوذه من خلال فشل سياسي مؤلم لا يفرق بيننا خارج السودان من خلال  السخرية واصبحنا “طبقة دنيا” في محيطنا “الأقليمي والدولي” .

هناك حاجة كبيرة لطريق ثالث لمشاكل السودان المعقدة تبدأ بالاعتراف بان هناك مشكلة تتطلب ان ننظر الي انفسنا جيدا وفي محيطنا الاقليمي والدولي وان نجاوب بوضوح للسؤال البسيط لماذا يكروهنا ولماذا اصبح السوداني يعيش هذه الحالة من التناقض والانفصام  من خلال تقييم الاخرين لنا ولانفسنا؟ اعرف ان الاجابة مؤجلة في ظل ضجيج الهرجان! المشكلة ليست فقط اقتصادية. دعونا نفكر في ثقافة التعويض Cultural reparation  كطريقة جديدة لبناء السودان وعقد اجتماعي يعظم جميع السودانيين.

ثقافتنا ومعتقدانا هي التي تحدد مستقبلنا باحلامه المؤجلة وهذا دور جميع النخب والسياسيين خاصة على وجه التحديد اولاد البحر و الجوقة من ابناء الغرب في محيط المركز الذين يديرون دفة القرار السياسي  لهذا البلد في ظل اخفاقات مستمرة لكل الاطراف.

د. سيف الدين داؤد عبد الرحمن

* أكاديمي ومستشار أقليمي

saifo2001@hotmail.com

References:

Carlo Koos (2014): Does Violence Pay? The Effect of Ethnic Rebellion on Overcoming Political Deprivation http://cmp.sagepub.com/content/33/1/3.abstract

DeFronzo, James (2005) Revolutions and Revolutionary Movements Published by Westview Press,

Desch, M. (2003), Democracy and Victory: Fair Fights or Food Fights? in: International Security,

28, 1, 180–194.

Desch, M. (2002), Democracy and Victory: Why Regime Type Hardly Matters, in: International

Security, 27, 2, 5–47.

Greene, Thomas H. (1990) Comparative Revolutionary Movements: Search for Theory and Justice. Prentice-Hall Contemporary Comparative Politics. _rd ed. Englewood Cli_s, NJ: Prentice-Hall.

Goldfrank, Walter L. (1994) “_e Mexican Revolution.” In Goldstone, ed., Revolutions.

Gurr, Ted Robert (2000). Peoples versus States: Minorities at Risk in the New Century. Washington, DC: United States Institute of Peace Press

Gregory D. Saxton: REPRESSION, GRIEVANCES, MOBILIZATION, AND REBELLION: A NEW TEST OF GURR’S MODEL OF ETHNOPOLITICAL REBELLION

Mack, A. (1975), Why Big Nations Lose Small Wars: The Politics of Asymmetric Conflict, in:

World Politics, 27, 2, 175–200.

Maria J. Stephan and Erica Chenoweth. “Why Civil Resistance Works: The Strategic Logic of Nonviolent Conflict.” International Security 33, no. 1 (Summer 2008): 7-44

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى